خلال المؤتمر الصحفي الذي عقد بلندن في السابع من شهر مايو الماضي، اشرأب الصحفيون البريطانيون المهتمون بالشؤون السياسية بأعناقهم لمشاهدة ديفيد كاميرون زعيم حزب "المحافظين"، وهو يدلف إلى داخل القاعة ليحتل مكانه في أعلى المنصة. وكان واضحاً التعب والإرهاق على الصحفيين من متابعة ليلة انتخابية حافلة أسفرت نتائجها عن برلمان معلق لا يمتلك فيه أي من الحزبين الرئيسيين في البلاد أغلبية تؤهله للحكم منفرداً. فلتشكيل الحكومة كان على "كاميرون" التحالف مع أحد خصومه بعد حملة انتخابية طاحنة، وهو ما ولد شكوكاً لدى العديد من المراقبين في قدرة زعيم حزب "المحافظين" على التعامل مع الخصوم والخروج بحكومة وحدة وطنية تواجه التحديات الاقتصادية التي تعرفها بريطانيا. لكن "كاميرون" سارع مباشرة بعد إعلان النتائج إلى توضيح موقفه ماداً يده إلى حزب "الديمقراطيين الأحرار" قائلاً: "إني أريد أن أتقدم بعرض كبير ومفتوح وشامل إلى أنصار هذا الحزب، وأريد أن نعمل معاً لمعالجة المشاكل العاجلة التي تمر بها البلاد". وحتى بعد الاتفاق على الائتلاف في وقت شكك كثيرون في إمكانية حدوثه توقع البعض انهياره بعد فترة قصيرة لن تتعدى فصل الصيف، وهو ما ثبت خطأه مرة أخرى بعدما اجتاز التحالف الحكومي المرحلة الأولى دون انقسام داخلي، بل الأكثر من ذلك أعادت التشكيلة الحكومية الجديدة عهد "حكم الوزارة" الذي تتخذ الحكومة بموجبه قراراتها جماعياً بعد مشاورات مع جميع المكونات والقوى السياسية المشاركة فيها، وهي ضمانة مهمة ضد استئثار طرف بالحكم وخضوع الحكومة لإملاءات شخص بعينه. والجدير بالذكر هنا أنه منذ الثمانينيات انتقل النظام السياسي البريطاني في ظل رئيس الوزراء من سيطرة الحكومة إلى ما يشبه النظام الرئاسي الأميركي. وفي هذا السياق ظهر رئيس الوزراء السابق، جوردون براون، باعتباره الأكثر هيمنة على الحكومة. لكن خلافاً لفترة "براون"، الذي سعى إلى بسط سيطرته على الحكومة واحتكار القرار السياسي بسبب التوافق بين مكوناتها التي يهيمن عليها حزب "العمال"، وجد "كاميرون" نفسه بعد الانتخابات الأخيرة مجبراً على استشارة المكون الأساسي في حكومته، حزب "الديمقراطيين الأحرار"، قبل تحديد السياسات العامة، فرئيس الحكومة ومعه شريكه "نيك كليج" يشرفان معاً على أكبر تخفيض للنفقات الحكومية في العالم، لكن ذلك لا يعني انعدام الخلافات بين القوى السياسية البريطانية، وإن كانت الخلافات تظهر أكثر داخل البيت الحزبي نفسه مثل التوتر الذي برز مؤخراً بين وزير المالية، جورج أوسبور، من حزب "المحافظين" والقيادي في الحزب نفسه "آيان دونكان سميث"، وزير الدولة لشؤون العمل والمعاشات، فقد وصلت حدة الخلافات بينهما درجة التلاسن وتبادل الشتائم في الاجتماعات الحكومية حول الطريقة الأمثل للتوفيق بين الحد من الإنفاق الذي تعتزم الحكومة إقراره وبين مواجهة الفقر، ورغم هذا التوتر في العلاقة بين الرجلين اللذين ينتميان إلى نفس الحزب، يبقى الخلاف طبيعياً بين وزارة المالية الآمرة بالصرف وبين وزارة أخرى تحتاج إلى موارد لم تعد متوافرة في ظل الأزمة الاقتصادية. ويُذكر أن الحكومات الائتلافية في بريطانيا قليلة ولا تحدث إلا نادراً، فهي مرتبطة بأوقات الأزمات الوطنية مثل أول حكومة ائتلافية شُكلت بين "الأحرار" و"المحافظين" خلال الحرب العالمية الأولى وجمعت "هيربيرت أسكيث" و"ديفيد لويلد جورج"، وحتى بعد انتهاء الحرب استمرت حكومة "لويلد" في السلطة لأربع سنوات أخرى إلى غاية عام 1922. وقد استغل "لويلد" لقبه كرئيس الحكومة المنتصر في الحرب العالمية الأولى ليبسط سيطرته، كما لو كان حاكماً مستبداً دون الرجوع إلى البرلمان، أو بقية أعضاء الحكومة، وهو ما أدى إلى سقوطه بعدما تمرد عليه الأعضاء المهمشون في حزبه، بالإضافة إلى وزراء شباب في الحكومة تم إقصائهم من قبله، وإذا كان هناك من درس يستفاد منه في التجربة البريطانية هو صعوبة استمرار الحكومات الائتلافية دون وجود سلطة فعالة تشارك في صنع القرار السياسي، وقد تكرر الوضع بعد الحرب العالمية الأولى في بريطانيا عندما اندلعت الأزمة الاقتصادية العالمية في العشرينيات لتستمر حتى "تشرشل" عندما دخلت البلاد الحرب العالمية الثانية، لكن رغم ذلك لم تكن الحكومات الائتلافية راغبة في استمرار حالة الائتلاف بين المكونات السياسية، بل فضلت السيطرة الحزبية وحصول حزب واحد على أغلبية، وهو ما يفسر تلكؤها في إصلاح النظام الانتخابي، الذي يتيح للحزب الفائز بالهيمنة على الحكومة وخروج الباقي إلى المعارضة. ولتفادي سيطرة الحزب الواحد على الحكومة وإشراك باقي المكونات السياسية عبر تشكيل حكومات ائتلافية على غرار باقي الدول الأوروبية أكدت الحكومة الحالية عزمها على تبني نظام انتخابي جديد يتيح للناخبين الاختيار بين القوائم وليس بين الأشخاص، بحيث إذا لم يحصل المرشح الأول على أكبر عدد من الأصوات في قائمة ما يتم الرجوع إلى المرشح الثاني في القائمة الأخرى، وبهذه الطريقة يصعب على حزب واحد الفوز بأغلبية الأصوات. ورغم الانتقادات التي قد توجه إلى نظام القائمة الانتخابي لما يسفر عنه من حكومات ائتلافية غير قادرة على تبني الإصلاحات الضرورية والحسم في اتخاذ القرارات، وخلق حالة من الشلل السياسي العام، لا يبدو أن النظام الثنائي المستوحى من الولايات المتحدة أحسن حالاً في ظل الاستقطاب الكبير بين الحزبين الرئيسيين والانقسام السياسي في واشنطن الذي يؤثر سلباً على الحياة السياسية، ويعطل التصويت على المشاريع والبرامج المهمة كما نرى ذلك مراراً في الكونجرس الأميركي، وفي المقابل لا يمكن الجزم بفشل الحكومات الائتلافية في الاضطلاع بمهامها كما يتضح على الأقل حتى هذه اللحظة من خلال الحكومة البريطانية، التي اجتازت اختبار التشكيل والاستمرار دون الوقوع في فخ الانقسام والانهيار. جيمس جرانت أستاذ القانون الدستوري بجامعة أوكسفورد ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "إم. سي. تي. إنترناشيونال"