عندما استهل أحمد زويل محاضرته بالقول إنه لا يضاهي نجم السينما عمر الشريف، ضجّ الحضور بالضحك. وكنتُ وعروس زويل آنذاك، الطبيبة السورية "ديما الفحام" نضحك مرتين؛ أولاً لأنه يضاهي الشريف بوسامته وأناقته "الإفرنجية"، وثانياً لضحك الجمهور الذي ضمَّ مائة عالم يمثلون النخبة الأرستقراطية العلمية في بريطانيا، بينهم ثلاثة يحملون جوائز "نوبل". وضحكنا مرتين عندما عرض زويل فيلماً سينمائياً يصور اكتشافه، معتذراً بتأثر تلامذته بهوليوود القريبة من مقر عمله وهو "معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا" في مدينة "باسادينا". وطرقتُ على خشب المقعد أمامي خوفاً على زويل من عيون لوردات العلوم عندما قال إن محاضرة سلفه في المعهد "لينوس بولنغ" الحائز على جائزة "نوبل" مرتين كانت مكرسة لتطور الكيمياء في المائة سنة القادمة، بينما موضوع محاضرته متواضعاً جداً، وهو "تصوير لحظة واحدة من ألف مليار من الثانية"! حدث ذلك في مقر "الرابطة الملكية" بلندن عام 1990، وانتظرنا والمجتمع العلمي العالمي تسع سنوات قبل أن يُمنح زويل جائزة "نوبل" عن اكتشافه سرعة التفاعل الكيمياوي الذي تنتج عنه كل مادة في الكون. تُقاس هذه السرعة بوحدة زمنية بالغة القصر تُدعى "فيمتوثانية"، وتعادل ثانية واحدة من 32 مليون سنة. وللمقارنة يقطع الضوء خلال ثانية واحدة المسافة بين الأرض والقمر، فيما تعادل عملية التفاعل الكيمياوي الزمن الذي يقطع الضوء خلاله واحداً في المائة من سمك شعرة إنسان. مسافات مماثلة تواجهها البعثة الدبلوماسية العلمية التي يشارك فيها زويل حالياً، ومهمتها متابعة وعد أوباما في خطابه في جامعة القاهرة بإقامة شراكات علمية بين معاهد البحوث في البلدان الإسلامية والأميركية. تضم البعثة إلى جانب زويل، "بروس ألبرت" الرئيس السابق لأكاديمية العلوم القومية الأميركية، و"إلياس زهروني"، وهو طبيب جزائري أميركي شغل سابقاً منصب مدير "معهد الصحة القومي" والذي يشرف على إنفاق أكبر موازنة للأبحاث العلمية تزيد عن سبعة مليارات دولار سنوياً. وتثير الخيبة عودة البعثة بأجوبة قديمة من جولات شملت عشر دول تمر بتحولات علمية مثيرة، بينها إندونيسيا، وتركيا، والإمارات العربية، وقطر. بعض شهادات المبعوثين دبلوماسية من النوع الذي تفكر فيه مرتين قبل أن تقول لا شيء. وما الشيء الذي يستحق الذكر في حديث زويل عن تقدير العرب للتقدم العلمي الأميركي، أو تعطش العرب إلى تعليم أفضل، أو قوله إن "تراث المسلمين وثقافتهم يدعمان بقوة التعليم والتنمية الفكرية، رغم ما تقرؤه أحياناً في الصحافة"؟ وهل تجهل واشنطن ما ذكره زهروني عن المصير المجهول لمذكرات تفاهم عدة عقدت مع البلدان العربية حول العلوم والتكنولوجيا، أو عن افتقار معظم السفارات الأميركية إلى ملحقيات علمية، أو تضييق سمات الدخول للطلاب والباحثين، وغير ذلك من عراقيل تحمل البلدان العربية للبحث عن شركاء علميين في أوروبا وآسيا؟ لقد أدخلت البعثةُ الدبلوماسيةَ في العلوم بدل أن تدخل العلومَ في الدبلوماسية. وما جدوى الدبلوماسية في التعامل مع أجيال جديدة من عرب ومسلمين يعرفون أن نسبة حاملي شهادات الدكتوراه من العلماء والمهندسين العاملين في الولايات المتحدة من المولودين خارجها ارتفعت من 24 بالمئة عام 1980 إلى 37 بالمئة عام2000. وتبلغ بينهم نسبة حاملي شهادات الدكتوراه في الفيزياء 45 بالمئة والمهندسين أكثر من 50 بالمئة. وربع المهندسين في الهيئات التدريسية للجامعات الأميركية مولودون في الخارج، وكثير منهم عرب. وتجاوزت الثلث بين عامي 1990 و2004 نسبة الحاصلين على جوائز نوبل في الولايات المتحدة من المولودين خارجها. هذه الأرقام وردت في بحثي "حركة الكفاءات العربية الإقليمية والدولية" المنشور في عدد يوليو من مجلة "المستقبل العربي" في بيروت، وهي مستقاة من شهادة ويليام وولف، رئيس "الأكاديمية الوطنية للمهندسين"، أمام لجنة الكونغرس للهجرة. وقد اعترف فيها بأن بلاده تزدهر بفضل "استخلاص أحسن العقول عبر الكرة الأرضية"، وأقر بالحاجة المتزايدة لهؤلاء الأميركيين الجدد "لأن البلدان الأخرى أصبحت أكثر تمكناً تكنولوجياً". وعند حساب العامل الاقتصادي المضاعف للعلوم والتكنولوجيا فإن قيمة الطاقة الذهنية العربية التي تحصل عليها أميركا وأوروبا دون مقابل، تعادل قيمة النفط والغاز العربيين. تكشف عن ذلك حسابات أنطوان زحلان، وهو من أبرز الباحثين العرب في العلوم والتكنولوجيا. ويُفترض أن تكون هذه المعطيات موضع اهتمام "ألبرت بروس"، رئيس تحرير "ساينس" التي تعد أكثر الدوريات العلمية الدولية نفوذاً. شهادته عن رحلته إلى إندونيسيا تبرر قول المفكر الأميركي جوزيف كروتش: "رغم محاولة الكثيرين، لم يفسر أحد قط الحقيقة الحاسمة، وهي أن العلم الذي يستطيع أن يفعل الكثير غير قادر على أن يقرر ما ينبغي عليه عمله". هل ينتظر حقاً علماء إندونيسيا، أكبر البلدان الإسلامية مساعدة "بروس" في إقامة نظام على غرار النموذج الأميركي لتمويل العلوم والتكنولوجيا وفق "قاعدة الاستحقاق"؟ هذا النظام يتخذ أداء أساتذة الجامعة والباحثين مقياساً لتحديد المرتبات والموازنات البحثية، والخلافات حوله كبيرة حتى في أوروبا التي خبرت ما يماثله في القاعدة الاشتراكية المعروفة "من كلٍ حسب قدرته، ولكلٍ حسب أدائه". الانطباع الذي يخرج به من يتحمل الاستماع ساعات إلى تسجيلات شهادات مستشاري أوباما، هو حاجة واشنطن لإرسال مبعوثين إلى داخل الولايات المتحدة وليس خارجها. زويل فعل ذلك بمقاله في صحيفة "الغارديان" البريطانية، وعنوانه "الولايات المتحدة بحاجة إلى عصر ناعم جديد"، وقد تحدث فيه عما أوقعته حرب الولايات المتحدة ضد العراق من ملايين الضحايا. وزويل شاهد عيان على العراق الذي زاره نهاية ثمانينيات القرن الماضي. وقد فوجئت بحديثه عن ذلك عند لقائنا عام 1991 في مختبره الذي يعد من المعالم السياحية في كاليفورنيا. يحتل المختبر خمسة سراديب مزدحمة بأجهزة ليزر تصور حركة التفاعل الكيماوي "كما لو كنا نشاهد ثانية واحدة من فيلم يستغرق 32 مليون سنة" حسب زويل. ولم أتوقع آنذاك، وقد مضت بضعة أسابيع على إخراج القوات العراقية من الكويت، أن يكون العراق أول الحديث على الطريق الطويل بالسيارة من مختبره إلى مطعم عربي تناولنا فيه عشاءنا في هوليوود. التفت نحوي وهو يقود السيارة، وقال باللهجة المصرية: "أقولك، العراقيين الجادين الوحيدين في أبحاث الليزر في المنطقة". عشرون سنة مضت على ذلك تلخص ما فعلته واشنطن خلالها بالعراق مقارنة زويل في محاضرة لندن لحظة التفاعل الكيماوي بمسرحية وليام شكسبير المشهورة "هاملت". "من المستحيل معرفة ما يجري بين المشهد الأول والأخير للمسرحية لو ضُغطت أحداثها بالقدر الهائل نفسه الذي تضغط به عملية التفاعل الكيماوي. كل ما سيراه مشاهدو المسرحية، هو البداية، يتعرفون فيها على أشخاص المسرحية، ثم تسقط الستارة مع المشهد الأخير، حيث الجثث متناثرة ولم يبق على قيد الحياة سوى بضعة أشخاص"!