استؤنف الموسم السياسي في فرنسا هذا الأسبوع على وقع طقس بات متداولًا ومعروفاً يطلقه "اليسار" الفرنسي مع انتهاء كل موسم صيف، هذا الطقس، أو العرف الفرنسي يتمثل في تنظيم إضراب عام تدعو له قوى "اليسار" في البلاد، كلما كانت السلطة في يد حكومة "يمينية". وكما جرت العادة أيضاً خلال الإضرابات التي ينظمها "اليسار" تضاربت التصريحات حول عدد المشاركين في الاعتصامات والمسيرات التي عرفتها المدن الفرنسية الرئيسية يوم الثلاثاء الماضي احتجاجاً على ساركوزي وحكومته، ففيما قررت معظم حافلات النقل العام الاستمرار في تقديم خدمتها للجمهور قررت قطارات الأنفاق المشاركة في الإضراب وتعطيل خدماتها، أما المواطنون غير المضربين فقد استفادوا من الإجازة وقرروا البقاء في بيوتهم، أو الاستمتاع بالطقس المعتدل الذي خيم على فرنسا في الأسبوع الماضي، وبالنسبة للأجانب الذين يزورون فرنسا، فقد عبروا دائماً عن دهشتهم لهذا النزوع الفرنسي نحو الاحتجاج والخروج في مسيرات كبرى رغم ما تسببه أحياناً من متاعب للسياح بسبب تعطل المواصلات وانقطاع الخدمات الأساسية، لكن ذلك لا يعني أن مطالب الفرنسيين ليست شرعية، أو أنها تفتقد للجدية، فقد انصبت الاحتجاجات خلال العام الجاري على ساركوزي الذي أدانته جموع المضربين لأسباب تتعلق بأسلوبه في الحكم، فضلًا عن تصرفاته وسياساته التي أغضبت الفرنسيين ودفعتهم للتعبير عن استيائهم وإدانة تصرفاته بحماس منقطع النظير. والحقيقة أن ساركوزي لا يتفق والنموذج التقليدي للسياسي الفرنسي، فهو بدا وكأنه غير مهتم بتحسين شعبيته لدى الفرنسيين، وغير معني بحبهم وتعاطفهم معه، كما أنه وطيلة الفترة السابقة عرف كيف يتفادى خطر نقمة الفرنسيين عليه. وقد اتضحت شخصية ساركوزي مباشرة بعد توليه الرئاسة وإعلان فوزه في الانتخابات، حيث استعرض علاقته المميزة مع رجال الأعمال الفرنسيين وذهب مع أحدهم في رحلة على متن يخت فخم، وهو ما فسره البعض برغبة ساركوزي في الاحتفال بالمكانة التي وصل إليها، هذا بالإضافة إلى استخدامه لغة عامية دون أن ننسى قسوته السياسية. لكن رغم هذه المثالب التي نفرت بعض الفرنسيين، لا سيما في الفترة الأخيرة بعدما عجز ساركوزي عن تحقيق الرخاء الذي وعد به وإرجاع المجد الفرنسي، فقد استطاع الاستحواذ خلال حملته الانتخابية والمرحلة الأولى من فترته الرئاسية على مخيلة الفرنسيين بعدما أصبح أحد أكثر الرؤساء الفرنسيين حركة ونشاطاً، بل أكثرهم نجاحاً خلال الثلاثين سنة الماضية، فقد تمكن بعد توليه الرئاسة من إذابة الجليد في العلاقة المتوترة تقليدياً بين الحكومات الفرنسية المتعاقبة وبين الاتحادات العمالية القوية في فرنسا، هذه الأخيرة التي مازالت متشبثة بظلال السلطة رغم انحسار زمن التعبئة الأيديولوجية وتناقص أعداد المنتسبين إليها مقارنة بالسنوات الماضية، بل إن النقابات تأقلمت بسرعة مع المعطيات الجديدة، وحافظت على قاعدتها الشعبية وسط الفئات العمالية والموظفين بعدما نجحت في استقطاب مثقفي التنظيمات الشيوعية واستفادت أيضاً من ناخبيهم. ويرجع الفضل في تحسن علاقة النقابات مع السلطة إلى ساركوزي الذي سن سُنّة جديدة تمثلت في استدعاء قادة الاتحادات العمالية إلى الإيليزيه لعقد مشاورات دورية حول القضايا العامة. لكن بعد مرور ثلاث سنوات على انتخابه رئيساً لفرنسا يعاني ساركوزي من تراجع كبير في شعبيته بسبب تصرفاته التي تنم في الكثير من الأحيان عن اعتزاز مفرط بالنفس ليهز بذلك أسس وهياكل الجمهورية التي وضعها ديجول من قبله عند تأسيسه الجمهورية الخامسة. هذا بالإضافة إلى ما اتسم به ساركوزي من تذبذب في الأفكار، وهو ما دفع الفرنسيين إلى تغيير موقفهم من رئيسهم الذي أوصلوه بأصواتهم إلى سدة الحكم، فحسب الدستور الفرنسي يضطلع الرئيس بأدوار مهمة تتمثل في الإشراف العام على سياسة الدولة وتوجيهها. وبموجب الدستور نفسه، فإن رئيس الوزراء يتولى مهمة التدبير اليومي للشؤون الحكومية، فضلاً عن وجود برلمان يناقش السياسات ويصادق عليها، لكن ساركوزي على ما يبدو أصر على القيام بالمهام جميعاً لأن ذلك يضعه وسط الأضواء التي يحبها، كما أن ميله إلى الاستعراض جعله بعيداً عن الجمهور، الذي لا يقبل بتغيير دور الرئيس من حام لقيم الجمهورية إلى مستعرض للثورة. ولعل أكثر من التقط هذه الميول لدى ساركوزي وانتقدها المحلل السياسي الفرنسي "جون لوي بورلانج" بقوله إن ديجول جعل من رئيس الدولة الفرنسية "مدافعا عن الأساسي والدائم"، فيما ساركوزي حوله إلى ممثل "لكل ما يلمع ويختفي بعدما جمع بين الدائم والمؤقت وبين المهم والعرضي"، وهو زعزع المرجعية المؤسساتية التي اعتاد عليها الفرنسيون. لكن بالإضافة إلى السلوك الشخصي لساركوزي، يبقى هناك سبب آخر مباشر يتمثل في قراره رفع سن التقاعد بالنظر إلى ارتفاع معدلات الأعمار من جهة والأزمة الاقتصادية التي يعيشها الغرب من جهة أخرى، وما يصاحب ذلك من عوامل متعلقة بالهجرة والتحولات الديموغرافية. ففي فرنسا كما في باقي البلدان لا يعني التقاعد التوقف عن العمل بل فقط توقف الموظفين عن دفع استحقاقات التقاعد والبدء في استلام التعويضات، بحيث يعني رفع سن التقاعد الاستمرار في الاقتطاعات ومعها زيادة إسهامات المشغلين، وهو ما يعارضه العمال والموظفون. ويليام فاف كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "تريبيون ميديا سيرفس"