قد يخطئ البعض عندما يتصور أن ما دأب عليه بعض القادة العرب من افتعال أو إذكاء بعض المشاكل الداخلية لإشغال عقول الناس الملتهبة وتحقيق بعض النتائج المرجوة، هو من خصائص الدول السلطوية التي لم تُرْوَ بعد بماء الديمقراطية، فيولد النظام حوادث ووقائع وطنية تُشغل بال الخواص والعوام، ترعاها وتصونها الجرائد الوطنية إلى أن تصبح قضايا وطنية بامتياز تتطلب تدخل الدولة، وقد تستمر هذه الحوادث المفتعلة سنوات تنمو وتترعرع باختلاف الأزمنة والأمكنة ونيات مفتعليها. والصحيح أن هذا النوع من الدهاء السياسي ليس حكراً على الدول السلطوية التي يحتاج قادتها إلى ماء المشروعية يضخ في عروقها باستمرار، فتعود إليها نضارتها المصطنعة وسناؤها الفاتن، بل هي استراتيجية سياسة داخلية عالمية بامتياز يتبناها حتى قادة الدول الأكثر رسوخاً في الديمقراطية، إما لوضع الغشاوة على الأعين وفرض جو مشحون يتطلب تدخل الدولة، وإما لكبح لجام المعارضة، أو استعداداً لاستحقاقات انتخابية سابقة لأوانها، أو لتغطية بعض المشاكل المجتمعية والاقتصادية الخطيرة، فيتناساها مليّاً أو كليّاً المواطن، إلى غير ذلك. وعامة الناس يكتفون بالمكتوب والمسموع والمرئي، وقلة منهم يتقنون الفصل بين حسابات السياسة وشروط الحقيقة ولا يفصلون بين عواطف الانتساب وعقلانية التبصر، إلا من رحم ربك. تستوقفني هنا، في هذا السياق، بعض الحوادث المتتالية في فرنسا ابتداء من قصة ارتداء البرقع الأخيرة وقوانين الأمن الداخلي والهجرة إلى ترحيل الغجر الذي يعرف تنديداً أوروبيّاً وعالميّاً قل نظيره. فعندما نتجاوز هذه الأحداث والوقائع التي تشغل بال وسائل الإعلام الوطنية الفرنسية، فإننا نلاحظ أن الحالة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي تمر بها فرنسا، وكذا الاستحقاقات الانتخابية المقبلة، هي التي كانت وراء جوانب عديدة من هذه الوقائع، وهذا التضخيم السياسي والإعلامي. وبالإمكان في هذا الباب أن نستحضر بعض التواريخ والوقائع المرتبطة بهذه الأحداث لتقريب الصورة. فمعظم الفرنسيين مثلا يعرفون معرفة تامة عدد المآذن في سويسرا (أربع) وعدد النساء اللواتي يضعن البرقع في فرنسا (367)، وقليل منهم من يعرف أن الخزينة الفرنسية العامة فقدت ما يزيد عن 20 مليار "يورو" بناء على قرارات تقنية خاطئة من السلطة التنفيذية، وهذا ما يعادل تقريباً عجز ميزانية الضمان الاجتماعي الفرنسي (22 ملياراً). وقد تزامن وضع قضية البرقع ضمن الأجندة السياسية الفرنسية الرسمية (مايو 2009) مع مشكل الخزينة العامة، ثم لاحظوا معي أن المناقشة الوطنية وما تلاها من خلق ميكانيزمات مؤسساتية (من هيئة وطنية للبث في قضية البرقع) وتصور مشروع قانون يجرم حمل البرقع، استغرق أكثر من سنة، أما في قضية تعديل قانون التقاعد فلم يتعد إصلاحه أكثر من ستة أشهر، وهي مسألة حساسة ومعقدة ومصيرية لكل الفرنسيين، خلافاً لموضوع ارتداء البرقع الذي لا يعني إلا بعض النساء اللواتي يمكن أن يجمعهن مطعم واحد في "الشون إيليزي" بباريس! ثم لاحظوا معي أن قانون ارتداء البرقع صادقت عليه الجمعية الوطنية بالإجماع يوماً واحداً قبل أبرز عيد وطني رسمي للبلاد المعروف بـ 14 يوليو، رمز التحرر الفرنسي، ولتاريخ المصادقة دلالة كبيرة في أذهان الفرنسيين، كما أن لبرمجة التصويت على هذا القانون في مجلس الشيوخ في هذا الشهر (شهر سبتمبر) دلالة رمزية كبيرة، إذ يصادف ذلك الذكرى التاسعة لأحداث 11 سبتمبر الدامية. فالخديعة السياسية المتقنة لرئيس الجمهورية الفرنسية جعلت أنظار الفرنسيين تصرف عن مشكل الخزينة العامة وهو مشكل اقتصادي وسياسي ليس بالهيِّن. ويتذكر المختصون في مجال السياسة والاقتصاد الأميركي ما وقع سنة 1988 لبوش الأب الذي خلف رونالد ريغان بعد حملة انتخابية مثيرة، أعلن مما أعلن فيها ضرورة سن قانون تجريم حرق علم الولايات المتحدة الأميركية الذي يتكرر عدة مرات في السنة، وصادق على هذا القانون أكثر من 90 في المئة من البرلمانيين الأميركيين قبل أن تلغيه المحكمة العليا. وموازاة مع هذه الثرثرة السياسية، انفجرت أخطر فضيحة مالية أميركية، تلك التي تتعلق بصناديق التوفير التي وصلت إليها أيدي بعض الماكرين الذين ساهموا في تمويل بعض أعضاء مجلس الشيوخ في الانتخابات... فاستطاع موضوع حرق العلم الوطني الأميركي قبر الفضيحة المالية. ثم إن العمل على إدخال تعديلات من أجل تسهيل ترحيل الأجانب المقيمين على الأراضي الفرنسية كالغجر، الذين يرحلون تباعاً إلى بلدانهم الأصلية (رومانيا وبلغاريا)، تضخم من أولي الأمر في فرنسا أكثر من اللازم، وهي سياسة استراتيجية لجلب أصوات شرائح مجتمعية توجد في أحضان بعض الانتماءات الحزبية كاليمين المتطرف، وهي استعدادات لحملة الانتخابات الرئاسية التي ستقام في ربيع 2012، والرئيس الفرنسي، في ظل تراجع شعبيته والأزمة الاقتصادية الخانقة، وضرورة صرف نظر المنتخبين عن الفضائح المتتالية لوزراء حكومته (وآخرها الفضيحة التي لحقت بوزير العمل السابق إيريك فيرت وعلاقته بالمليارديرة ووريثة إمبراطورية "لوريال" للمستحضرات التجميلية، السيدة ليليان بيتانكور)، يعي جيداً المردودية الانتخابية عند التركيز على مسائل الأمن والهجرة والهوية الوطنية والبرقع مما يولد مخزوناً للأصوات من شتى الأطياف الحزبية الفرنسية ومقبرة في بعض الأحيان للمواضيع الاقتصادية والاجتماعية. لقد كان ابن خلدون قارئاً مميزاً لأهداف أهل الحكم ولوسائل سلطتهم، فلم يكتف بالتوظيف والإطناب هدفاً لذاته ولا بالتاريخ السردي مجالا للفهم، وفصل بحزم وإصرار بين صنع التاريخ وكتابته، وبين ممارسة السياسة والتمرس في الفهم، وفي النهاية بين صورة الأمور وجوهرها؛ فقد يظن البعض أن صورة البرقع مثلا هي قضية مفتعلة وموجهة فقط ضد الإسلام، ولكنها في جوهرها موجهة لملء المخزون الانتخابي بالمصوتين المساندين، لأن الدول الإسلامية ومواطنيها لن يصوتوا في الانتخابات الرئاسية الفرنسية التي ستحل في ربيع عام 2012، فقط ذلك المخزون الانتخابي الذي شحنته سياسة المكر والتمويه يمكن أن يصوت بإيجاب في تلك الانتخابات، والسياسة خدعة. وفي الختام "عيد مبارك سعيد وكل عام وأنتم بخير".