في مقاربته لمسألة "العدالة الاجتماعية" يتحدث نص "المشروع النهضوي العربي" عن "منظومة سياسات العدالة الاجتماعية" ويحدد عدداً من السياسات المركزية التي لا يمكن تحقيق تلك العدالة من دونها وهي: "سياسات الإنتاج السلعي الرأسمالي والاستهلاكي بما فيه المنتجات الثقافية وتسعيرها.."، و"سياسات الأجور والعمال. وتقوم أساسا على تأمين حق العيش الكريم ..."، و"إعادة توزيع الدخول في المجتمع العربي من خلال السياسات المالية والاجتماعية المناسبة بما يحد من الاستقطاب الطبقي فيه". ثم ضمن السياسة الأخيرة يورد عدداً من الإجراءات التي يجب العمل عليها وهي: "إعادة هيكلة النفقات العامة حيث تقوم هذه بدور مهم في إعادة توزيع الدخل"، و"التدخل لتنظيم العلاقات الإيجارية بين الملاك والمستأجرين"، و"توفير الحقوق التأمينية ضد البطالة"، و"إعادة تكييف السياسات الضريبية"، ثم "إحياء دور الحركة التعاونية التي لعبت بشقيها الإنتاجي والاستهلاكي دوراً كبيراً في الماضي خاصة في بداية القرن العشرين"، و"التشديد على ضرورة التزام السياسات التعليمية بضمان عدالة الفرص أمام المواطنين"، و"امتداد مفهوم العدالة الاجتماعية لتشمل العدالة على أساس "النوع"، وذلك بوضع استراتيجية قومية للنهوض بالمرأة العربية في جميع المجالات". ثم يختم النص بعنوان فرعي تحت عنوان "بعض آليات لتعزيز العدالة الاجتماعية" ولا نجد هنا سوى آليتين الأولى "إحداث صناديق لمكافحة الفقر" والثانية "تفعيل دور صناديق الزكاة ومؤسسة الوقف". ويمكن القول إن كل ما ذكر من سياسات وآليات و"ينبغيات" وأهداف وطموحات موجودة وبشكل أكثر تفصيلا في خطط التنمية في الأقطار العربية (الثلاثية، والخمسية، والعشرية، وغيرها). كما نجدها مكررة في خطط وزارات الاقتصاد والتنمية وكل الوثائق الحكومية. والمشكلة ليست في صياغة قائمة مما يجب القيام به وتطبيقه، لكن في جوهر سؤال التطبيق وآلياته. والسؤال الحقيقي هو: لماذا لم يطبق ذلك سواء كليّاً أو جزئيّاً على المستوى القُطري، بما يسمح ويشجع تطبيق ذلك على المستوى القومي؟ الجواب لأن هناك معوقات حقيقية وبنيوية (عدا عن الفساد وغياب الإرادة السياسية). والسؤال الذي يلي هو: ما الجديد والمبدع الذي سيجلبه المشروع النهضوي حتى يصبح من السهل تطبيق كل ذلك على مستوى قومي وهو قد فشل على مستوى قُطري؟ أليس لنا أن نتوقع مضاعفة العوائق وتعقد المشكلات عندما نريد تطبيق تلك السياسات و"الينبغيات" على مستوى عربي فوق- قطري؟ ومن زوايا أخرى يتبدى أن ما يطالب بتحقيقه نص المشروع النهضوي يتحدى كثيراً من نظريات الاقتصاد والتنمية والإدارة العامة للدول. ففي الوقت الذي يتحمس فيه للإنفاق طولا وعرضاً لتحقيق العدالة الاجتماعية (إعادة توزيع الدخول في المجتمع العربي، وتوفير الحقوق التأمينية للبطالة، وإعادة تكييف السياسات الضريبية... الخ -مع فرض قيود وضغوط على القطاع الخاص) لا يقول لنا من أين سيؤمِّن الموارد المالية لخزينة الدولة كي تتمكن من تبني تلك السياسات الإنفاقية والاجتماعية الطموحة؟ ثم إن الحماس الزائد وغير النقدي للقطاع العام والاتكال عليه لتحقيق أهداف عجز عن تحقيقها في حكومات واقتصادات دول الرفاه الاجتماعي في أوروبا الغربية يشي بتسطيحية مدهشة. فسياسات الخصخصة، على ما فيها من ثغرات وعيوب، التي اتبعتها تلك الدول ثم أصبحت إحدى مرتكزات نفض الاقتصادات المترهلة لم تأت من فراغ، بل جاءت نتيجة ضغوط كبيرة على الخزينة العامة جراء الإنفاق على القطاع العام والتأمينات والخدمات الاجتماعية. حدث هذا ويحدث في دول تعتمد فيها الخزينة على الضرائب بالدرجة الأولى، ناهيك عن بلداننا التي لا تشكل الضريبة فيها المكون الأساسي للموازنات العامة. والأمر الآخر الذي يمكن ملاحظته، أو بالأحرى ملاحظة غيابه، في النص وفي مقاربته للعدالة الاجتماعية وتوزيع الدخل والثروة بشكل عادل هو الآتي: إذا كان المشروع النهضوي العربي يدعو إلى الوحدة العربية فإن من الطبيعي أن يدعو ولو نظريّاً على الأقل إلى تقاسم وتوزيع الثروة العربية. ولكن النص لم يصل (أو لم يجرؤ) على البوح بهذه الدعوة. وتفسير هذا قد يقوم على أساس الخشية من إثارة الدول العربية الغنية ومجتمعاتها، وبحيث يتم النظر إلى المشروع النهضوي والوحدة العربية على أنهما مشروعان سيستنزفان مقدرات وثروات تلك الدول -أي أنها ستنفق عليه. وقد يكون تفسير ذلك الصمت على أساس أن فكرة تقاسم الثروة مع الدول النفطية ليست واردة فعلا في المشروع النهضوي. فنحن هنا إزاء نظرية ونص فكري يتناول مستقبل العرب، وعليه أن يتحلى بالجرأة والشجاعة ليقول لنا علناً ما يقتنع به فعلا وما يريد أن يصل إليه وكيف. وعلى أساس تلك الشفافية الفكرية يُعرض للرأي العام والنقاش. أما إن كان التفسير الثاني هو الحقيقي، أي القناعة فعلا وحقّاً بعدم ضرورة تقاسم الثروات العربية، فإن هذا يخلق تناقضاً داخليّاً في بنية الدعوة القومية والمشروع النهضوي. ذلك أن من الطبيعي في قيام الوحدات بين الدول ومشروعات التكامل أن ينفق غنيها على فقيرها، لأن في ذلك نهوضاً بالجميع -مثل مشروع مارشال الأميركي لإنهاض أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية، أو إنفاق ألمانيا على شقها الشرقي بعد الوحدة، أو إنفاق أوروبا الغربية على دول أوروبا الشرقية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وضم معظم تلك الدول إلى الاتحاد الأوروبي. ويحدث هذا الإنفاق على قاعدة "الجميع يربح" أو (win-win situation)، وأحد المرتكزات الأساسية هو أن الوحدات توسع السوق التبادلي وتعظم من رأس المال. وعلى ذلك تصبح الوحدة والتكامل بين الدول متطلبين رأسماليّين ومحمولين على رافعة رأس المال، ولا يتموضعان كي يحاولا لجمه. والروح العامة في نص المشروع النهضوي العربي تفتقد هذا المحرك البراغماتي، إلى الدافع المصلحي الذي يحمل الدول والحكومات والمجتمعات ربما رغماً عن عواطفها حتى تتجه نحو التكامل. وعوض ذلك يعتمد على مفاعيل الأيديولوجيا ويستعيرها من كل الجهات حتى تخدم الهدف الوحدوي. وهكذا ربما يمكن الخلوص إلى أن عزوف المشروع النهضوي عن الاستجابة بشكل أكثر واقعية وعمق لحقائق الليبرالية الاقتصادية والبراغماتية السياسية يقود إلى إعاقات ذاتية للمشروع من ناحية عملية، بحيث يحرم نفسه ويحرم فكرة التكامل بمجملها من الحوافز الحقيقية التي يمكن أن تختصر المسافات الزمنية- والمكانية.