تعلمنا جميعاً منذ الصغر هذا الحديث أو الشعار الذي أصبح مكتوباً على ظهر كراسات المدارس بالأحمر مع جدول الضرب "النظافة من الإيمان". وكان النُّظار يستخدمونه أحياناً للحفاظ على نظافة الفصول والمدارس. وكنا نطيع، ليس إيماناً بالشعار بل خوفاً من العقاب من المشرف الاجتماعي أو الناظر. وضاع هذا الشعار كما ضاع ما تعلمناه بمرور الزمن. ولم يبق للتعليم أثر بسبب ضرورات الحياة، والمفارقة بين ما كنا نسمع في قاعات الدرس وما نراه في الحياة العامة، في الأسرة والمجتمع. وفي الوقت نفسه نعلم جميعاً أن الإسلام دين النظافة، وأنه لا يوجد دين ركز على النظافة كما ركز الإسلام. فالطهارة أول باب في الفقه. والوضوء شرط الصلاة. ومن لا وضوء له فلا صلاة له. ونحفظ نواقض الوضوء. ويتم التأكيد على ضرورة الغسل في الحياة وفي الممات. وتظل الطهارة في الحياة وفي الممات حتى غسل الميت وتطييبه. ومع ذلك، في الحياة الخاصة والعامة، لا توجد مجتمعات لا تراعي قواعد النظافة مثل المجتمعات الإسلامية. القمامة في الشوارع وعلى نواصي الطرقات لدرجة إحضار شركة نظافة أجنبية لتنظيف المطارات حفاظاً على سمعة مصر أمام الزائرين الأجانب، من سياح ورجال أعمال. وربما نحتاج إلى نفس العبقرية لتنظيف الطرقات من روث الخيل وروائحه وهي من تجر "الحناطير" التي تحمل السياح لرؤية آثار مصر الوسطى. وما زالت الملايين من سكان المقابر تعيش بلا صرف صحي، عن طريق عربات النزح، وبلا مياه صالحة للشرب. وملابس المواطنين في الطرقات أيضاً قد تدل على بؤسهم، وروائحهم في المواصلات العامة تدل على غياب شعار "النظافة من الإيمان". ودورات المياه الخاصة والعامة في المساجد وفي الأبنية العامة تحتاج إلى نظافة وهي المصممة أصلا من أجل النظافة. والتلوث أصبح قضية ليس من ثقب "الأوزون" أو التغيرات المناخية للكرة الأرضية أو من نفايات المصانع من الكيماويات أو النوويات بل من مخلفات الإنسان على الأرض. التلوث لا يأتي من خارج الأرض إليها بل يخرج منها بسبب ما يقذفه الإنسان عليها ثم ما تقذفه هي عليه. فالتلوث نتيجة علاقة الإنسان بالأرض وليس نتيجة علاقة الأرض بالهواء. إن التحدي أمامنا ليس في الاعتزاز بعظمة الإسلام وسمو مبادئه، وأن النظافة فيه جزء من مبادئه وشرط في أركانه، بل يكمن التحدي في الربط بين هذا المثال وواقع المسلمين. والسؤال: إذا كان المثال بهذه الروعة فلماذا الواقع بهذا البؤس؟ ما الصلة بين النظافة في المثال والقذارة في الواقع؟ وهو نفس السؤال بالنسبة لكل شيء في حياتنا الخاصة والعامة. إذا كان الإسلام دين الحرية "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟"، فلماذا تعيش بعض شعوبنا ظروف القهر، وخلقنا بأيدينا أزمة الديمقراطية والتعددية السياسية؟ لقد كان هم الإصلاح في القرنين الأخيرين هو كيفية تحويل المثال إلى واقع، كيف يدخل الإسلام من جديد كعقيدة وسلوك، كتنظير وعمل في حياة المسلمين الخاصة والعامة. فإذا ما غادر المصلح إلى الخارج وشاهد مجتمعات "الكفر" وجد إسلاماً بلا مسلمين، واستعاد بذاكرته مجتمعاته فوجد فيها مسلمين بلا إسلام. فأكبر قدر ممكن من المنظفات الصناعية موجود عند الغربيين في حياتهم الخاصة والعامة. ويعاقب من يخرق قوانين النظافة العامة. ومن لم يرعها في حياته الخاصة أصبح موضوعاً للتصوير والعرض في مختلف الفنون خاصة الرسم، والسينما تعرض متشرد "كلوشار" باريس. وازدهرت المدرسة الواقعية في الفن لهذا السبب لأنها تصور الناس في الأزقة والحارات وبيوت الصفيح والأكواخ والنجوع. فما العمل إذن؟ البداية بالثقافة الشعبية، وبتغيير تصورات الناس للعالم، وبتحويل الإسلام إلى رؤية وممارسة عن طريق خطب المساجد بدلا من الحديث عن الماضي. ويوازي ذلك حملة في البرامج الدينية التي كثرت في قنوات الفضاء وتعدد مشايخها، وقدراتهم على الخطابة والتأثير. هذا بالإضافة إلى تعليم الأطفال في المدارس كيفية تنظيف مدارسهم بجهدهم الذاتي، وكيف أن النظافة لا تنفصل عن التعليم، وأن الحفاظ على البيئة جزء من التربية، وأن نظافة الأرض لا تنفصل عن نظافة العقل وصفاء الذهن. ولا تكفي الدعوات النظرية بل يصاحبها توفير الإمكانيات العملية بوضع صناديق القمامة في الطرقات وعلى أعمدة الكهرباء، ووضع الحاويات الكبرى على النواصي كي يتم التفريغ فيها كي تحملها عربات القمامة. وأدوات النظافة الآن أصبحت آلية، لجميع النفايات ورش الطرقات. فإن لم تتوفر فالعمالة موجودة بالصورة التقليدية، كانس الشارع بمقشته، بعد أن أصبح الآن شحاذاً يقف في انتظار العربات كي يتمتم بشيء يفهم منها قائد السيارة أنه يستجدي. وهو لا ينظف بل هي ورقة تحت المقشة يحركها مرة يميناً ومرة يساراً فلربما مر رئيسه. في الماضي كان هناك فرق بين حي وحي، بين الزمالك وبولاق، بين جاردن سيتي والسيدة زينب، وفي الإسكندرية بين الكورنيش والأنفوشي. والآن تساوى الجميع. ففي وسط الأحياء الراقية التقليدية حيث يقطن الأجانب وتوجد البنوك والمؤسسات الأجنبية تترك القمامة بلا أوعية على نواصي الطرقات وعلى الأرصفة مما يؤكد في ذهن الأجنبي الصورة النمطية التي يأخذها عن هذه البلاد ويتعالى عليها بثقافته ونمط حياته التي قد لا تختلف عن أحياء المهاجرين لديه على أطراف العواصم والمدن الكبرى. ولا فرق بين محافظ ومحافظ إلا في الشكل الخارجي. وتعود الأمور كما كانت بمجرد تغييره. ولا فرق الآن بين طبقة اجتماعية وأخرى فأصحاب العربات الفارهة يرمون بمخلفاتهم من النوافذ في الطرقات العامة أسوة بسائقي عربات النقل وركاب المواصلات العامة. ويساهمون في نشر الأمراض حتى ولو كانوا من أصحاب الياقات البيضاء. وقد نجد بين الحين والآخر شعاراً مكتوباً على سلة مهملات "حافظوا على نظافة مدينتكم". إن السياسة تبدأ من الاجتماع. السياسة قبل أن تكون اختيارات الحكومة هي سلوك الشعوب. ليس هدفها الحصول على السلطة، فالسلطة ليست في مقر الحكومة أو في قسم الشرطة بل عند الناس. وقد تكون هذه مهمة القوى السياسية التي ما زال هدفها هو الوصول إلى السلطة وتنسى أن السلطة مع الناس، في إعادة تكييف حياتهم اليومية، الخاصة والعامة، وإدارة القريب قبل البعيد، والمساهمة في إدارة المرور قبل إدارة الدولة. قد يجعل ذلك تلك القوى أقل عزلة عن قواعدها إذا ما قامت بمبادرات للحلول الذاتية لنظافة الأحياء، وتثقيف المواطنين ورعايتهم اجتماعيّاً، وتعليميّاً وصحيّاً، ومنها الحفاظ على نظافة البيئة بعد مراعاة ثقافة النفس، والتطبيق العملي لشعارات الخطباء التي تكرر سماعها، (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ).