ربما لا يوجد شعب على وجه الأرض يقدس الثورة ومكتسباتها مثلما يفعل الفرنسيون الذين تفوقوا على ثورات القرن العشرين المعروفة براديكاليتها؛ كونهم أول من أطاح بالنظام الملكي، وأول من نصب رئيساً منتخباً ليغيروا، ليس فقط الخريطة السياسية الفرنسية، بل ليلهموا أجيالا من الثوار الراغبين في تغيير الأوضاع وقلبها رأساً على عقب. لكن الثورة كما يعلمنا التاريخ نادراً ما تحافظ على براءتها، بل سرعان ما تنجرف وراء الأهواء السياسية المتضاربة والمصالح المتباينة لتغرق في دوامة العنف وتتبدد بذلك رومانسية البدايات مفسحة المجال أمام مشاعر الإحباط والمراجعة. هذا المخاض الكبير الذي ميز تشكل الدولة الفرنسية هو ما يتتبعه المؤرخ وأستاذ التاريخ بجامعة أوكسفورد، "روبرت جيلدي"، في كتابه "جيل الثورة... الفرنسيون قبل الحرب العالمية الأولى". في هذا الكتاب يستعرض المؤلف التحولات الكبرى التي شهدها التاريخ الفرنسي والمراحل المختلفة لتطور الأمة الفرنسية بالتركيز، ليس فقط على الجانب السياسي، بل أيضاً بالغوص في أعماق المجتمع، ملامساً أهم القضايا التي شغلته؛ مثل الكنيسة واللغة والفئات الاجتماعية، فضلا عن بداية تبلور النزعة المركزية التي سترتبط بفرنسا منذ ذلك الحين وإلى غاية اليوم. ما يلفت في فرنسا هو حركيتها الرافضة للاستقرار وكأنها في حالة بحث دائم عن نظام سياسي يعكس هويتها التي لم تكن قد تبلورت حتى بعد قيام الثورة في عام 1789. فقد تحولت فرنسا بعد قرن على ثورتها الشهيرة إلى مختبر سياسي ضخم لتجريب النظم السياسية على اختلاف أنواعها. فقد شهدت ثورة 14 يوليو ولادة الملكية الدستورية تحت عهد الملك "لويس السادس عشر" الذي سيتم إعدامه في عام 1793، ليتم إعلان الجمهورية الأولى تحت نظام "اليعاقبة" الراديكاليين. وتلا ذلك "عهد الإرهاب" الذي لن يدوم طويلا بعدما أمسك الجمهوريون المعتدلون بزمام الأمور وشكلوا حكومة تستعين بمجلس تشريعي من غرفتين. لكن بحلول عام 1799 فاجأ الجنرال "بونابرت" الجميع ونظم أول انقلاب عسكري يشهده التاريخ المعاصر، مُنصِّباً نفسه الحاكم الأول للدولة الفرنسية، ثم إمبراطوراً في عام 1804، ليشغل بال أوروبا بغزواته العسكرية طيلة عشر سنوات. غير أن الملكية عادت مجدداً إلى فرنسا بعد انهزام "بونابرت" وانسحاب قواته من أوروبا ليتم تغييرها من أسرة إلى أخرى، وفي الأخير سيتم إلغاؤها تماماً لتنهض على أنقاضها الجمهورية الفرنسية الثانية. وخلافاً لكل التوقعات لم يهدأ المخاض في فرنسا، حيث نصب "بونابرت" الثاني، والذي أصبح أول رئيس منتخب في التاريخ الأوروبي، إمبراطوراً في مسعى لإحياء مجد عمه الآفل. لكن بعد هزيمة قواته على يد بروسيا عام 1870 ستحكم فرنسا، ولفترة قصيرة، "كومونة باريس" التي اعتبرها ماركس أول ديكتاتورية للبروليتاريا في التاريخ، ثم لتعقبها سيطرة الجمهوريين المعتدلين مرة أخرى وقيام الجمهورية الثالثة. وبحسب الكاتب، فقد أنشأت الثورة تحولا كبيراً في مزاج الفرنسيين، وأحدثت شرخاً عميقاً في المجتمع ظل ملازماً لخمسة أجيال في الفترة بين 1789 و1914، لينقسم الفرنسيون إلى معسكرين يسعى كل منهما إلى فرض سيطرته وتبرير شرعيته. ولم يحسم الصراع بين الطرفين إلا بعدما توحدا في إطار هوية وطنية جامعة فرضتها الحرب العالمية الأولى، حيث كانت تلك التجربة بمثابة خروج حقيقي من حالة التخبط التي تملكت الفرنسيين لمدة طويلة ليواجهوا خطراً كان يهدد الوجود الفرنسي ذاته. فمن جهة ظهر المعسكر الثوري الذي أعلى سلطة العقل بعد ما مهدت له التحولات الفكرية في أوروبا، ومن جهة أخرى كانت هناك فئة محافظة كارهة للتطورات الجديدة، فخاضت معارك مريرة على مدى قرن من الزمن لاستعادة التراتبية الاجتماعية القديمة، وبعث الملكية والكنيسة الكاثوليكية من أنقاضهما. هذه المعركة لم تمر دون انتهاكات كبيرة كان أبرزها مناهضة السامية التي أسفرت عن وجهها من خلال قضية "درايفوس" العنصرية عام 1890. وكما يقول المؤلف، "كان التحدي الأكبر بالنسبة لفرنسا خلال القرن التاسع عشر هو مدى قدرة الأطراف المتصارعة، بامتداداتها الاجتماعية والاقتصادية، على إيجاد أرضية مشتركة لبناء توافق سياسي وتجاوز الصراعات التي أوجدتها الثورة"، وهو ما استطاعت فرنسا فعلا تحقيقه بعد بروز تحديات كبرى أصابت كرامة فرنسا في الصميم وجعلتها تعيد ترتيب أولوياتها لمواجهة خطر ألمانيا بعد توحدها ودخولها العصر الصناعي. زهير الكساب ـــــــــــــــــــ الكتاب:جيل الثورة: الفرنسيون قبل الحرب العالمية الأولى المؤلف: روبرت جيلدي الناشر: ألين لاين تاريخ النشر: 2010