توقفت في مقال سابق، عند بعض الطروحات الفكرية لعلماء الغرب المسلمين، والذين حاولت أن أخص بعضهم بالحديث لأضع لبنة متواضعة في موضوع يحتاج إلى من يوفيه حقه من الدراسة والبحث، وقد تحدثت عنه من خلال أفكار أصحابه ممن أسلموا أو كرسوا حياتهم لخدمة الإسلام. وإذا كان هناك من يؤرخون للامتداد الإسلامي في الغرب، وبخاصة مع هؤلاء العلماء والمفكرين، فإن تاريخ ذلك الامتداد الذي يبرز من مؤلفات أصحابه، يقدم الوجه الثاني من هذا التاريخ، ويؤكد أن بعض العلماء والمفكرين الغربيين أدركوا حقيقة المخاطر التي تحيط بمجتمعاتهم، رغم اكتساحها العالم بقوتها الصناعية والتقنية والعسكرية... ألا وهو كونها لم تنجح إلى الآن في حل إشكالية الإنسان وأزماته الروحية الحادة. وهو ما تحدث عنه اشبنغلر في كتابه "تدهور الحضارة الغربية"، فحدد معالم هذا التدهور وأسبابه وإشكالياته. كما تناوله كتابان آخران أحدهما هو "موت الغرب" لريتشارد كوك، والثاني هو "انتحار الغرب" لكريس سميث. والسبب بالنسبة لذينك المفكرين هو أن طريقة العقل الغربي في إدارة فائض القوة الذي أتيح له، قد تؤدي بالعالم إلى كارثة حقيقية. كما أن الكسب المادي وحده، حسب المفكر الفرنسي الراحل روجيه جارودي، هو المسيطر على اتجاه الدول القوية حتي ولو أدى إلى القضاء على ملايين البشر بالأسلحة الفتاكة التي يصنعها وينتجها ويبيعها الغرب. فهي حضارة مادية فُقد منها عنصر الروح. والسبب، بالنسبة لجارودي أن أوروبا التي أخذت من الحضارة الإسلامية الكثير، توقفت عند الجانب التطبيقي للمادة، فعرفت بالتجربة العلمية كيف تهتدي إلى مئات الاختراعات، لكنها عجزت عن أن تسلك بهذه الاختراعات مسلكها الصحيح. ويتفق الدكتور علي عزت بيجوفيتش، رئيس البوسنة الراحل، في كتابه عن "الإسلام بين الشرق والغرب"، مع جارودي في هذا الأمر، حيث يقول: "إن الفشل الذي أصاب الأيديولوجيات الكبرى في العالم إنما يرجع لنظرتها إلى الإنسان والحياة نظرة أحادية الجانب". وتصل دراسة للدكتور جون اسبيزيتو، أحد أبرز المتخصصين الغربيين في دراسة الإسلام، إلى نفس الرؤى تقريباً، حيث يقول إن الركون إلى الأنماط الفكرية الجاهزة والمعلبة هو السبب وراء بروز خرافة "التهديد الإسلامي" كبديل عن التهديد الشيوعي، وقد نجح أصحاب هذه النظرة في نشرها وبثها في عقول الغربيين لفترات طويلة. وللخروج من هذه الدائرة يدعو القس غالبندر رجال الكنيسة والعاملين في وسائل الإعلام الغربية إلى قراءة القرآن الكريم والتراث الإسلامي ودراستهما قبل إصدار آراء مشوهة وأحكام مسبقة حول الإسلام والمسلمين. نعم، نحن بحاجة إلى أمثال هؤلاء المفكرين والعلماء كي يكونوا حلقة مهمة لتجسير الفجوة التي يعاني منها العقل الغربي في فهمه للإسلام وثقافته، خاصة وأنهم ولدوا (العلماء) وتربوا في قلب النظام الغربي نفسه، وأدركوا حقيقته وإشكالياته، كما أن لديهم القدرة على توفير الأدوات الفكرية اللازمة لتوصيل رسالة الإسلام. ويتفق اسبيزيتو وشيرمان جاكسون، أستاذ الدراسات العربية والإسلامية بجامعة ميتشيجان الأميركية، على أن المشكلة الجوهرية في العلاقة بين الغرب والشرق سببها الدور الذي تلعبه الصهيونية العالمية، والتي تهيمن على مؤسسات صنع القرار الأميركي. وكان سبيزيتو واضحاً عندما دعا الغرب إلى الاعتراف بحقيقة وجود مثل هذا الدور الخفي للقوى الصهيونية العالمية، موضحاً أنه ما لم يدرك الغرب ذلك، فإن الصور المشوهة حول الإسلام ستظل مهيمنة على العقل الغربي، تسيطر عليه كما يحاول هو السيطرة على الطبيعة والإنسان.