من كان يتصور أن الذكرى التاسعة للعملية الإرهابية التي أجريت في قلب أميركا وهزت ذاتها وشنت من خلالها حرباً شعواء على مرتكبيها في كافة أنحاء العالم، تشهد حاليّاً جدلاً عميقاً حول عملية بناء "مركز قرطبة" وهو عبارة عن مسجد وأبنية خدمات متكاملة في مكان قريب من موقع الحدث الأعظم في تاريخ أميركا وكذلك العالم. كما أن الحادثة الكارثة مست عصب كل أميركي سواء كان أحد الضحايا الثلاثة آلاف تقريباً الذين ذهبت دماؤهم قرباناً لأفكار بعض الإرهابيين والمتطرفين الذين أساءوا إلى أعظم دين في العالم تتميز قواعده الراسخة بحفظ الدماء والأعراض والأوطان من عبث العابثين. ولا زال العالم الإسلامي والعربي يحاول إعادة بوصلة الإسلام الحق إلى الاتجاه الصحيح، إلا أنه إلى هذه الساعة لم تفلح جهوده وتنضج ثماره بعد. ولم يتعاف الإسلام من شهقة الإرهاب والتطرف التي طالت عوالم العرب والمسلمين في شتى البلدان ولم تسلم عقر الدار من عقم الأفكار الراديكالية التي تغذي الحقد والكراهية لكل ما هو غربي دون أن تفرق بين سياسات الحكومات وبراءة الشعوب منها. فالذكرى تحولت إلى لفت الأنظار إلى أميركا الحرية والتعددية والتنوع والتسامح والتعايش بين جميع الأميركان، والمسلمون بالطبع جزء منهم كما أقر أوباما في كافة خطاباته التغييرية، وجامع ذلك كله في ثنايا نصوص الدستور الذي يضمن لكل من يعيش في أرض تمثال الحرية أن ينال حقه دون نقصان على رغم أنف الإرهاب والإرهابيين. ومن الطبيعي أن يجر بعض الساسة قضية "المسجد" المزمع إنشاؤه وفقاً للقوانين المرعية للدولة نحو تحقيق أغراض انتخابية مرتقبة، ولكن كل ذلك لم يمنع أوباما من موافقته دون أن يبدي ندماً لأن الأمر مجرد تحصيل حاصل والوقوف عنده كثيراً يعني العودة إلى ما كان عليه زمن بوش الثاني. أميركا أوباما لا يمكن أن تدير شؤونها مع العالم عبر موجات هستيرية متراكمة منذ عهد سلفه، فهي حَرية أن تعود إلى نبذ كل ما يعكر صفو علاقاتها مع العالم الإسلامي عن طريق السماح بأن تأخذ مجراها في شرايين المجتمع الأميركي الذي اشتهر ببوتقته التي تذيب كل فروقات الإنسانية وتصهرها تحت بند المواطنة التي تعد صمام الأمان للحفاظ على بريق أميركا في العالم. فالمسجد المختلف على بنائه بالقرب من المركز العالمي الذي تحول إلى غبار تذروه رياح وسموم الإرهاب المدمر، قادر أن يعيد اللحمة من جديد إلى سياقها الصحيح، ويطرد من بين ثنايا كل فكر يحاول زرع الانقسام باسم الإسلام الذي ذهب ضحية هو الآخر لجنوح الإرهاب الذي خلق قلقاً إضافيّاً على حياة أي إنسان آمن وبعيد عن تجاذبات التيارات التي جعلت من الإرهاب دينه وديدنه. ينبغي على أميركا الحلم ألا تربط مواقفها من الإسلام بسبب أفعال أفراد يعدون على الأصابع لم يحسنوا تقديم الصورة الحقيقية لدينهم، فاختاروا من عندهم أبشع ما تمخضت عنه شطحات أفكارهم التي أدت إلى ما وصلنا إليه من تراجع فوق التراجعات المتراكمة منذ قرون. فلدى أميركا خاصة آليات للنهوض لا يملكها غيرها، فلا يمكن لحريتها الموسعة أن تضيق ببناء مسجد في أي مكان من زوايا القارة الشاسعة. وهذا ما أكد عليه عقلاء الفكر وحكمة المحللين في أميركا ذاتها وهو ما يحتاج إلى إضافة من عندنا، فهم أدرى بشعابها التي تحوي كل من تطأ قدماه أرض الحريات العريقة التي لا يعقل أن تداس من قبل أفراد مهووسين قاموا بفعلتهم المنكرة بإجماع استنكار الأمة قاطبة قبل بقية العالم.