لا شك أن العقوبات الدولية ضد إيران، والتي تتزعم الولايات المتحدة الدعوة إليها، تلحق أضراراً مؤكدةً بالاقتصاد الإيراني. ولعل من أخطر تأثيرات تلك العقوبات ذلك التأثير على آمال إيران في تصدير كميات كبيرة من الغاز الطبيعي. وكما هو معروف، فإن إيران هي الدولة التي تمتلك ثاني أكبر احتياطيات غاز طبيعي مؤكدة بعد روسيا... ويمكن لها بناءً على ذلك، من الناحية النظرية على الأقل، أن تصبح مورداً رئيسياً لهذه المادة الحيوية للدول الصناعية، خصوصاً في القارة الأوروبية، وكذلك لدول الاقتصادات الناهضة في آسيا. وتتقاسم إيران مع قطر حقلا بحرياً ضخماً للغاز الطبيعي يقع في الخليج العربي، ويطلق على الجزء الإيراني منه "ساوث بارس" والجزء القطري "نورث دوم". وفي الوقت الذي نجحت فيه قطر في تطوير "نورث دوم"، فإن إيران فشلت في تطوير "ساوث بارس"، وهو ما يرجع، في المقام الأول، إلى عجزها عن اجتذاب المستثمرين الأجانب للاستثمار في هذا المجال ذي الأهمية البالغة لاقتصادها. وفيما يتعلق بحقول إنتاج الغاز الطبيعي البرية التابعة لإيران، كانت هناك، ولسنوات طويلة، خطط لبناء خط أنابيب يمتد من إيران إلى باكستان، ومنها إلى الهند. نظرياً، يبدو هذا الخط مجدياً من الناحية الاقتصادية، لأن الهند وباكستان تحتاجان إلى الغاز الطبيعي بصورة ماسة، ولأن الحصول على هذا الغاز من دولة جارة، سوف يخدم اقتصاديهما واقتصاد تلك الدولة معاً. بيد أن المشكلة التي تواجهها إيران في هذا الصدد هي أن الولايات المتحدة تعارض إنشاء خط الأنابيب هذا، وهو ما يجعل من مسألة الحصول على التمويل اللازم لإنشائه، وهو تمويل ضخم للغاية، أمراً صعباً للغاية. وهناك مشكلة أخرى، بخلاف مشكلة المعارضة الأميركية، هي مشكلة العلاقة المتوترة التي يسودها الشك العميق، وعدم الثقة -نتيجة لمواريث تاريخية ومشكلات راهنة- بين الهند وباكستان، مما يعني أنه بدون التوصل لتسوية سلمية للمشكلات العالقة بينهما، وهي كثيرة، فإنهما لن تتمكنا أبداً من حل نزاعاتهما، وخصوصاً النزاع حول كشمير الذي اتخذ أبعاداً خطيرة في الفترة الماضية، بسبب الاضطرابات المستمرة في الأقليم، والاتهامات المتبادلة بين البلدين. فالمخططون الاستراتيجيون الهنود، فيما يتعلق بمد خط الغاز الطبيعي، لن يقتنعوا أبداً بفكرة أنه يمكن الاعتماد على حسن النوايا الباكستانية في إبقاء خط الغاز مفتوحاً في أوقات الأزمات. ونتيجة لذلك، اتجه التفكير لوجهة أخرى، حيث تم طرح مقترحات عديدة وطموحة، لنقل الغاز الطبيعي الإيراني إلى أوروبا من خلال خط أنابيب يمتد من حقول إيران، بنوعيها البري والبحري، إلى تركيا، ومنها إلى الدول الأوروبية الراغبة في استيراد الغاز منها. ومما يسهل من عملية إنشاء هذا الخط، أنه يوجد بالفعل في الوقت الراهن، خط أنابيب قصير ممتد من إيران إلى المناطق الشرقية من تركيا لتوفير نسبة صغيرة من احتياجاتها من الغاز الطبيعي. وتأمل إيران في رفع العقوبات الغربية المفروضة عليها، بسبب برنامجها النووي، حتى تتمكن من توصيل الغاز إلى خط أنابيب"نابيوكو" المقترح الذي يهدف لتقليل اعتماد الدول الأوروبية على خطوط أنابيب روسيا التي قلنا من قبل إنها صاحبة أكبر احتياطيات طبيعية من الغاز في العالم. وسوف يبلغ طول خط الأنابيب المقترح 3000 كيلو متر، وسوف يمتد من منطقة بحر قزوين إلى النمسا متجنباً المرور بالأراضي الروسية. ويمكن وصل هذا الخط بإيران عبر تركيا. لكن خط أنابيب "نابيوكو" يبقى، مع ذلك، خط أنابيب بالاسم فقط؛ فعمليات الإنشاء لم تبدأ بعد، علاوة على أنه لا تزال هناك شكوك حول قدرة أذربيجان وتركمانستان، وإيران في النقطة الحالية من الزمن، على توريد الغاز لتلبية الاحتياجات الأوروبية المتزايدة، وبما يجعل من هذا المشروع استثماراً رابحاً في نهاية المطاف. ويقول الخبراء إن إيران، حتى في أفضل الظروف، سوف تكون مضغوطة، بدرجة تحول بينها وبين توسيع نطاق الإنتاج، بحيث يكون كافياً للوفاء بالاحتياجات الخارجية من الغاز، وذلك ما لم يتم ضخ كميات ضخمة من الاستثمارات الأجنبية لإنشاء هذا المشروع المهم. أمر مثل هذا -وهو شيء مفهوم- لن يحدث، طالما بقى الموضوع النووي بغير حل. وكانت هناك توقعات بأن إيران ربما تلجأ إلى تركيز جهودها على تطوير الغاز الطبيعي المسال على وجه التحديد. غير أن هذه المسألة، في الحقيقة، مكلفة جداً وتحتاج إلى تقنية غير متوافرة في الوقت الراهن سوى في دول الغرب التي لن تزود إيرانَ بها في ظل العقوبات الغربية المفروضة على طهران. وربما تتمكن الصين في المستقبل من امتلاك مثل هذه التقنية وتوفيرها لإيران، بدلا من الدول الغربية.. لكن الخبراء يعتقدون أن أمراً كهذا قد يحتاج لفترة زمنية يمكن أن تصل عشر سنوات، قبل أن يصبح حقيقة واقعة، هذا إذا افترضنا أن الصين سوف تكون على استعداد، بالفعل، لتقديم هذه الاستثمارات الضخمة. إن صفقات الغاز بطبيعتها تحتاج إلى أموال طائلة وجاهزة، بيد أن المشكلة في هذا الصدد هي أن معظم المستثمرين، سواء كانوا شركات مستقلة أو حكومات، يحجمون في أغلب الحالات عن استثمار نقودهم في مشروعات ومناطق مضطربة، توجد بها مشكلات سياسية غير محلولة، واحتمالات لوقوع صدامات عسكرية في أي وقت. وهكذا، نرى أن بيئة إيران الأمنية المتزعزعة، هي التي تحول بينها وبين القدرة على تسويق سلعة متوافرة لديها بكثرة.