المرضى النفسيون يصعب اكتشافهم، بل يصعب اكتشافهم حتى بالنسبة لأنفسهم! وهم في تزايد نظراً لأن ضغوط الحياة، وتشعب التوجهات، وحالات الضغط الإداري والاجتماعي تزداد. كما أن المعايير الإدارية تجور -أحياناً- على البعض تماماً كما هو حال عدم التواؤم أو الانسجام العاطفي داخل المنزل أو بين أفراد الأسرة. كما أن التكالب على مباهج الحياة وأساسياتها قد يجعل الإنسان عرضة للمرض النفسي. ولقد قرأت قبل فترة أن بلداً خليجيّاً سجل عام 2008 خمسمائة ألف حالة نفسية! وقد استوقفني الخبر لشعوري بأن موضوع الصحة النفسية موضوع معقّد ومهم ويحتاج إلى رعاية وظروف أفضل. وأيضاً لأن مسببات المرض النفسي الحديث لا يتم الالتفات إليها إلا متأخراً، وقد يبدأ العلاج في فترات متأخرة وصعبة، في الوقت الذي تكون الوقاية أو القضاء على أسباب المرض أفضل من معالجته. فمن مسببات المرض النفسي اضطراب حياة الإنسان العاطفية والمادية وعدم اتزانها، ونلاحظ هذا الاضطراب في المظاهر التالية: * استحضار وقائع وأحداث معينة هزّت الشخص ووترته وجعلته غير قادر على الخروج من ذلك الحدث أو نفيه خارج منطقة تفكيره. وقد يبدأ المرض النفسي بحالات اكتئاب شديدة تؤثر على تفكير الشخص وعلاقاته مع محيطه ونظرته العامة للحياة. ومن ثم ينكفئ على ذاته، ويدمّر حياة الشريك معه، وتضمر علاقاته مع الأصدقاء والأهل. * الصدمة المالية: كلنا ندرك أن البورصة أنتجت آلاف المرضى النفسيين وبدرجات متفاوته في منطقة الخليج. ذلك أن الثقافة المادية وحالات التكالب قد طغت على حياة قطاعات من مجتمع الخليج إلى درجة أن البعض قد "كفر" بقيم التراث التقليدية كالتجارة وشراء العقارات والأراضي ووضع كل بيضه في سلة البورصة! بقصد الثراء السريع ومقارعة أصحاب الملايين! وجاءت الهزة الاقتصادية الأخيرة لترجَّ المجتمع وتكسر كل البيض. وهذا ما جعل أصحاب الثروة يصحون على ثروة دفترية، أو ورقية هي حجم أسهمهم في البورصة لا قيمتها. فذهب النقد وذهبت العقارات وبقيت الأرقام الحمراء على شاشة البورصة. وقد سمعنا عن حالات قام فيها الأفراد بوضع "تحويشة العمر" في شركات استثمار أو أسهم، أو هوت أسعار الاستثمارات، وتحول "المغامرون بتحويشة العمر" إلى نزلاء في المصحّات النفسية. وبالطبع لن نتحدث عن معاناة أهل المريض النفسي معه، أو معاناة المريض نفسه مع المجتمع وظواهره. * الصدمة الوظيفية: وحيث إن مجتمع الخليج مجتمع تحوّلي، فإن العديد من أشكال الإدارة والتوجهات الإدارية قابلة للتغير والتبديل، حسب استشارات بيوت الخبرة الأجنبية التي لم تثبت نجاحها الأكيد في المنطقة، قدر إسهامها في تجزئة المجتمع وإبعاده عن المسيرة الديمقراطية والتوازن الاجتماعي. ولأن مجتمع الخليج في الغالب لا تسوده لغة الديمقراطية وقد يتستر بعض أهله على حالات عدم تطبيق القوانين والتعسف في التعامل مع الإنسان، فإن الإحالات المبكرة على التقاعد قد خلقت جيشاً من المرضى النفسيين وبدرجات متفاوتة وبعضها يعيش خلف الجدران. ونحن نشاهد نماذج لهؤلاء اتجهوا للإدمان في أنماطه المختلفة، كما أنهم انفصلوا عن المجتمع وهمومه، وانهارت العلاقات الأسرية، وظهر عدم الاهتمام بتربية الأطفال أو تلبية احتياجاتهم، كما ظهر ذلك في نزوع بعض الرجال إلى السفر المتكرر للهروب من آثار الصدمة، وفي حالات محددة لاحظنا أن الصدمة الوظيفية قد يسببها الاختلاف في وجهات النظر، أو التفاوت في الخبرة والمؤهلات بين الموظف ومديره، وفي الغالب يكون المدير أقل خبرة وتأهيلاً من الموظف، وذلك من ثمار بعض الممارسات التي يرفضها المجتمع المدني. وفي النهاية يخسر الوطن كفاءات عالية من أبنائه، حيث لا تنصفهم الظروف والشخوص، ويتحولون إلى مرضى نفسيين إن لم يستطيعوا استيعاب صدمة الإقصاء والنفي، وقد ينهارون إداريّاً ومهنيّاً وعاطفيّاً. * الصدمة العاطفية: وهي صدمة تقترب من شكل القتل من حيث تأثيرها على نفسية الإنسان. فالخيانة، أو موت أحد الشريكين أو الطلاق، أو فشل علاقة رومانسية متدفقة، كل ذلك يهزّ كيان الإنسان ويجعله مشروعَ مريضٍ نفسي. إننا نعتقد أن إزالة أسباب المرض النفسي كفيلة بالتقليل من أعداد المرضى النفسيين وإنقاذهم من الآثار الجانبية -للأقراص التي يتناولونها- على أجسادهم وعقولهم. كما أن بناء الثقة في نفوس الأبناء منذ الصغر يجعلهم أكثر تماسكاً ومنعة عند حدوث الصدمة العاطفية، بل إن تربية الطفل على القناعة والتسامح والإيمان بالقدَر وإبداء الرأي الصريح من الوسائل التي تساهم في خلق الشخصية السوية القوية التي تستطيع الصمود أمام الصدمة العاطفية. كما أن العدالة الاجتماعية وتطبيق مبدأ سواسية المجتمع وتكافؤ الفرص والشفافية وعدالة توزيع الأدوار حسب كفاءة المواطن -لا اسمه أو اسم عائلته- وعدم اللعب بأقدار الناس دون حق، من الوسائل التي تجنبنا المرض النفسي. فبعض المديرين يكونون "أباطرة " أو "سيكوباتيين" ضد الآخرين. وتمكنهم كراسيهم الوظيفية -في حالات غياب المساءلة الرسمية والنيابية والشعبية- من احتقار موظف يختلف معهم في الرأي. ولذلك فإن تطبيق مبدأ سواسية المجتمع وإعطاء الموظف الفرصة لشرح وجهة نظره قبل "ترهيبه" بالإقالة التعسفية من الأمور التي تبعده عن احتمالات الإصابة بالمرض النفسي. وينطبق الأمر كذلك على الوضوح في العلاقة الزوجية والتكافؤ والشعور بالانتماء للشريك. وكذلك حسن معاملة الأبناء وعدم تفضيل أحدهم على الآخر، أو عدم التقرب لأحدهم بالهدايا والعطايا وإهمال الآخر، أو عدم الضغط غير الواقعي على الفتاة وكل ذلك من العوامل التي تقلل من حالات المرض النفسي. وأخيراً، فإن سيادة دولة القانون هي الأساس القوي لحياة آمنة ومستقرة يعيش فيها كل الناس هانئين بأخذ حقوقهم في مقابل تأديتهم واجباتهم.