يثير مسلسل "الجماعة"، الذي يتابعه كثير من المشاهدين في بلاد عربية عدة، جدلا حول تاريخ "الإخوان المسلمين" وحاضرهم في مصر. لكن هذا التيار، الذي نشأ في مصر عام 1928، لم يلبث أن انتشر تدريجيا في العالم العربي والإسلامي. لذلك أصبح الكثير من العوامل المؤثرة في تطوره مرتبطاً بالتطورات التي تحدث في تنظيماته في مصر كما في بلاد عربية أخرى. ومن أهم هذه التطورات حالياً التغير الذي حدث في قيادة تنظيم "الإخوان" في سوريا، عبر انتخاب المهندس محمد رياض شقفة مراقباً عاما له. فقد حمل هذا التغيير، الذي حدث في اجتماع مجلس شورى "الإخوان" السوريين في أسطنبول قبل أسابيع، التيار الذي يعتبر أكثر تشدداً إلى القيادة. فالمراقب العام الجديد ينتمي إلى التيار الذي خاض المواجهة المسلحة ضد نظام الرئيس حافظ الأسد في أواخر سبعينيات وبداية ثمانينيات القرن الماضي؛ "المحاربون القدامى". كما تولى مواقع عدة في الجهاز العسكري لتنظيم "الإخوان" في سوريا إضافة إلى مواقع أخرى سياسية، وظل على موقفه المتشدد ضد نظام الحكم في الوقت الذي حاول المراقب العام السابق فتح جسور معه. ومن الطبيعي أن يثير انتخاب شقفة أسئلة عن أثره في اتجاهات تيار "الإخوان" في العالم العربي عامة. فقد جاء هذا التغيير بعد أن كرَّس الاتجاه الذي يوصف بأنه محافظ سيطرته على تنظيم "الإخوان" المصري عبر انتخاب محمد بديع مرشداً عاماً في يناير الماضي. لذلك فالاعتقاد السائد الآن هو أن المتشددين، أو من يسمون أحياناً "المحافظين" في تنظيمات "الإخوان"، أحكموا سيطرتهم على التنظيم الأم في مصر ثم صعدوا إلى قيادة التنظيم السوري. ورغم أنهم لم يتمكنوا من السيطرة على التنظيم الأردني -المشروع قانوناً بخلاف التنظيمين المصري والسوري- فقد حافظوا على نفوذ قوي فيه ضمن صيغة ترجئ صراعهم ضد الاتجاه الذي يعتبر معتدلا إلى مرحلة تالية. غير أنه إذا كان لهذا الصراع خصوصيته المرتبطة بالتداخل التاريخي بين تنظيمي "الإخوان" الأردني والفلسطيني، فثمة قاسم مشترك يجمع الصراع في داخل التنظيم السوري والخلاف الذي لم يبلغ مبلغ الصراع في التنظيم المصري، وهو البرنامج السياسي وبصفة خاصة كيفية التعامل مع قضية العلاقة بين الدولة والدين، أو بين سيادة الأمة وسيادة الشريعة، في هذا البرنامج. ويمكن توضيح ذلك عبر المقارنة بين مشروع البرنامج الذي طرحه "الإخوان المسلمون" في مصر في العام 2007، والبرنامج الذي كان نظراؤهم السوريون قد أقروه قبل ذلك ببضع سنوات في إطار ما عُرف باسم "ميثاق الشرف الوطني"، ثم أعادوا طرحه في صيغة أكثر تبلوراً عقب إعلان "الإخوان" في مصر مشروع برنامجهم. فالفرق بين برنامج "الإخوان" السوريين الذي وضعه الاتجاه الموصوف بالاعتدال ومشروع برنامج "الإخوان" المصريين الذي وُضع في ظل سيطرة الاتجاه الذي يعتبر متشدداً، فرق كبير وواضح. ففي الوقت الذي أكد البرنامج السوري أن الدولة ينبغي أن تكون مدنية تقوم على المؤسسات والتداول السلمي للسلطة والمشاركة الشعبية، جاء مشروع البرنامج المصري بصيغة أثارت مخاوف كبيرة لأنها تنطوي على شبهة "دولة دينية". فقد نص هذا البرنامج على تشكيل هيئة من كبار العلماء لمراجعة التشريعات والقوانين والقرارات التنفيذية للتأكد من عدم تعارضها مع الشريعة الإسلامية. كما أنه في الوقت الذي أكد برنامج "الإخوان" السوريين إيمانهم بمبدأ المواطنة وإقامة الدولة على أساسه، بما يعنيه من عدم التمييز بين المواطنين حسب الجنس أو الدين أو العرق، نص مشروع برنامج "الإخوان" المصريين على أن النساء والأقباط، أي أكثر من نصف المواطنين، لا يحق لهم الترشيح لمنصب رئاسة الدولة. ورغم أن النقد الشديد الذي تعرض له هذا المشروع أربك "الإخوان" في مصر، ودفع بعض قادتهم إلى إعلان أنه ليس نهائياً بل مطروح للنقاش، فإنهم لم يراجعوا نصوصه التي أثارت هذا النقد. ولذلك لابد أن يثار التساؤل عن برنامج "الإخوان" السوريين بعد التغيير الذي حدث في قيادتهم، وهل يحدث فيه تعديل وفي أي حدود. وهذا سؤال تتجاوز أهميته مستقبل تنظيم "الإخوان" السوري لأنه جزء من سؤال أكثر شمولا يتعلق باتجاه تنظيمات "الإخوان" في العالم العربي عموماً في الفترة المقبلة بعد أن كرَّس التيار الذي يعتبر متشدداً سيطرته على التنظيم الأم في مصر حيث يوجد المرشد العام الذي يفترض أنه القائد الأعلى لهذه التنظيمات كلها. ورغم أن هذا المرشد لم يعد كذلك فعلياً، بعد انحسار نفوذ التنظيم المصري في أوساط التنظيمات الأخرى، فهو ما زال يتمتع بمكانة معنوية لدى كثير من أعضاء هذه التنظيمات. وتلعب هذه المكانة دوراً في تشكيل الأجواء العامة في بعض تنظيمات "الإخوان" الأخرى. فإذا كانت القيادة صاحبة هذه المكانة محافظة في اتجاهاتها، يمكن أن يؤثر ذلك في المواقف التي يتخذها بعض أعضاء التنظيمات الأخرى واختياراتهم. ولما كان معظم هذه التنظيمات يعتمد على الانتخاب في اختيار قيادته، سواء مجلس الشورى أو مكتب الإرشاد والمراقب العام، يمكن لهؤلاء الأعضاء أن يساهموا في توجيه تنظيماتهم نحو التشدد في مواقفها تجاه المسألة الديمقراطية. وربما تكون هذه هي المسألة الأكثر أهمية التي ينبغي العناية بها لدى قراءة مستقبل تنظيمات "الإخوان المسلمين" العربية، وخصوصاً في البلاد التي يحظى فيها هذا التيار بتعاطف شعبي ملموس، سواء أكان وجوده محظوراً أو مباحاً من الناحية القانونية. فالموقف تجاه المسألة الديموقراطية بوجه عام أكثر أهمية من موقف هذه التنظيمات إزاء نظم الحكم في بلادها. وهذه قاعدة عامة لا يُستثنى منها تنظيم "الإخوان" السوري الذي انشغل مراقبون بالتساؤل عن أثر التغير في قيادته على موقفه إزاء نظام الرئيس بشار الأسد، أكثر مما اهتموا بتداعيات هذا التغيير على برنامجه السياسي وموقفه تجاه المسألة الديمقراطية. وهم معذورون في ذلك، لأن المراقب الجديد كان متحفظاً على اتجاه سلفيه، عبد الفتاح أبو عزة وصدر الدين البيانوني، إلى مد جسور مع دمشق ورهانهما على إمكان تحقيق مصالحة، إلى حد أن أولهما عاد إلى دمشق عام 1986. كما أن الثاني، الذي خاض مفاوضات صعبة مع ممثلي النظام السوري أكثر من مرة منذ 1987، عاد إلى مهادنته خلال الحرب على قطاع غزة في مطلع 2009 بعد أن كان قد اتجه إلى التصعيد في بداية 2004 وشارك مع قوى معارضة أخرى في إطلاق "نداء الإنقاذ" ثم في تحالف "إعلان دمشق". غير أن أي تغيير محتمل في موقف "إخوان" سوريا باتجاه التصعيد لن يكون له أكثر من أثر إعلامي لا يلبث أن ينحسر، في الوقت الذي أصبحت دمشق في وضع أقوى منها في أي وقت مضى منذ غزو العراق. أما التغيير في موقفهم تجاه المسألة الديمقراطية، عبر مراجعة برنامجهم الأكثر تقدماً حتى الآن بين تنظيمات "الإخوان" العربية، فقد يكون له أثر كبير ليس في اتجاهات هذه التنظيمات فقط، بل في مستقبل بعض بلادنا العربية أيضاً.