تحل هذه الأيام الذكرى التاسعة لزلزال 11 سبتمبر 2001، متزامنة مع تصاعد مذهل لعمليات الإرهاب التي تعددت بوتيرة مذهلة من إندونيسيا إلى وسط أفريقيا وغربها مروراً بدوائر الصراع الحاد في أفغانستان والعراق. ومع أن هذه الوتيرة تباطأت إلى حد بعيد في الساحات الغربية، إلا أن الجزع من الإرهاب تحول إلى خلفية دائمة للاستراتيجيات الأمنية في الولايات المتحدة والبلدان الأوروبية، بل أصبح إطاراً ضابطاً للتدبير السياسي بما له من سلبي الأثر على الحريات العامة ونمط الاجتماع المشترك. وقد تناول المهندس والفيلسوف الفرنسي "بول فرليو" هذا التحول في كتابه الحواري ،الذي صدر مؤخراً بعنوان "إدارة الخوف". ويبين المؤلف بطرافة أن العالم يدخل القرن الحادي والعشرين على إيقاع القصص التوراتية الثلاث المشهورة: انهيار أبراج نيويورك الذي يوازي انهيار أبراج بابل (التي بناها النمرود)، وأحداث التسونامي الآسيوي الذي تقابل طوفان نوح وظلال البركان الأيسلندي الذي أوقف الحركة الملاحية فتحول الركاب إلى ملايين اللاجئين الضائعين مما يقابل حدث التيه العبري بعد خروج بني إسرائيل من مصر أيام النبي موسى عليه السلام. في الحالات الثلاث يتحول الخوف إلى أداة من أدوات التحكم السياسي، على الرغم من اختلاف مصدري الخوف: الخوف من العنف العدمي الأعمى (أي الإرهاب) والخوف الإيكولوجي(البيئي)، ويمكن أن نضيف إليهما الخوف من الانهيار الاقتصادي (الأزمة المالية الشاملة التي بدت نذرها الخطيرة مؤخراً). أما الخوف من الإرهاب فيطرح إشكالات فلسفية وقانونية معقدة على الفكر السياسي الحديث. صحيح أن أعمال الرعب ليست بالجديدة، بل هي قديمة قدم الوجود الإنساني، كما أن أحداث الإرهاب لم يتعد ضحاياها خلال الأربعين سنة الأخيرة عشرين ألف قتيل حسب التقديرات المنشورة في حين تفتك النزاعات والحروب العديدة المنتشرة عالميا بما يزيد على مليون فرد. إلا أن استثنائية الإرهاب تكمن في أنه يشكل خروجاً على دوائر ترويض العنف واحتوائه التي أبدعتها الثقافة البشرية منذ قرون عديدة، وأهمها ثلاث الدائرة السياسية والدائرة القانونية والدائرة الأخلاقية. فبخصوص الدائرة السياسية، يخرج الإرهاب عن منطق احتكار الدولة للعنف المشروع الذي هو مقوم شرعية السلطة (حسب عبارات ماكس فيبر المشهورة). ومن المعروف أن الفكر السياسي الحديث منذ "هوبز"، اعتبر هاجس الخوف هو رحم تشكل الحالة التعاقدية الاجتماعية، بما يولده من تكافؤ ومساواة أمام خطر الموت العنيف، وما يقتضيه من إبداع النظام المؤسسي الضامن لاستمرارية الحالة الجماعية المشتركة. انه إذن من النوازع النفسانية الخادمة للإرادة العقلانية، كما أنه تعبير عن وضعية المساواة الأصلية قبل تشكل لحظة الدولة، التي تستمد شرعيتها ونجاعتها من ضرورة حفظ الحياة الجماعية. أما حالة الرعب المتولدة عن الإرهاب، فتقوم في مقابل حالة الخوف على تحطيم معادلة السلم الاجتماعي باستهداف المؤسسات الضامنة لها مهددة بالنكوص إلى وضعية "حرب الكل ضد الكل" الأصلية .فإذا كان هدف العقل السياسي هو توفير القاعدة المؤسسية القارة للعيش المشترك، فان غاية الإرهاب هي تفتيت هذه القاعدة، ونزع فاعلية الخوف التأسيسية من خلال لحظة الانتحار التي هي إلغاء لمنطق حفظ النوع الإنساني (المساواة أمام جزع الانمحاء). كما أن الإرهاب خارج عن الدائرة القانونية لترويض العنف، التي بدأت بقوانين الحرب العادلة كما قننتها المنظومات اللاهوتية الوسيطة، قبل أن تعاد صياغتها في القوانين الوضعية الحديثة. فإذا كان العقل القانوني يقوم على مبدأ الفصل بين طبيعة الفعل (الخاضع للمقاضاة ) وشخص الفاعل في ذاته (المسؤول عن فعله في حدود التجاوزات المدانة، فان الإرهاب يخلط بين المستويين ويفضي – كما يبين فردريك فورمس – إلى إلغام العلاقة بين الحياة والعدالة التي هي خلفية المنظومة القانونية. فالفعل الإرهابي من حيث كونه فعلاً لا حد فيه ولا قيود، يقوض مبدأ التوازن بين الوسيلة والغاية (حتى ولو انطلق من مرجعية دينية أو أخلاقية )، إلا أنه كثيراً ما يؤدي إلى مفارقة تمديد هذا الاختلال إلى استراتيجيات مواجهته بحيث تتحول "الحرب على الإرهاب" إلى مواجهة خارجة عن الشرعية القانونية بما تستخدمه من إجراءات رادعة أو استباقية بمنأى عن ضوابط العدالة. والخطر القائم هو أن يتراجع العقل القانوني الحديث من مرجعية حقوق الإنسان إلى مرجعية حفظ الحياة الإنسانية المجردة بتبرير كل التجاوزات القانونية باسم الحرب على الإرهاب (كما وقع في عدة بلدان غربية). كما أن الإرهاب خارج على الدائرة الأخلاقية لترويض العنف، باستهدافه كل خطوط وجسور التواصل الإنساني، من تحديدات اجتماعية (هويات الترابط والالتقاء)، ولذا نلمس أنه يتركز في معابر التواجد الجماعي أو الانتقال الكثيف التي هي خصوصية المجتمعات الحديثة المفتوحة، من أماكن عمومية ومحطات قطارات ومطارات وأماكن ترفيه وسياحة. أما الخوف الإيكولوجي فيرجعه "فرليو" إلى انتقال الإنسانية من "تسارع التاريخ" إلى "تسارع الواقع". فتسارع التاريخ هو الانتقال من الفرس إلى القطار ثم الطائرة، في حين أن تسارع الواقع يعني انحسار بعد المكان والعجز عن التحكم في الفضاء المتولد عن تقنيات الاتصال الجديدة، بحيث أصبحت البشرية تعيش في بعد الحاضر الدائم غير القابل للضبط والتسيير. فالخوف الأيكولوجي هو التعبير الأبرز عن هذا التحول الكبير الذي يأخذ شكل الخشية من اختفاء النوع الإنساني المهدد بمصادر خطر عديدة من الاحتباس الحراري إلى التلوث النووي.. لقد كان الخوف في ما مضى محصورا في فترات الحروب والأوبئة، وأضحى اليوم –كما يرى فرليو- محيطنا المعيش اليومي في عالم متشبع بالأحداث المفزعة من فيروسات متجددة وكوارث مناخية وانفجارات مالية وحوادث صناعية مدمرة... ومن هنا تحولت السياسة من تسيير الشأن الجماعي المشترك إلى تسيير الخوف بدل ترويضه واحتوائه عن طريق مؤسسات ناجعة وفاعلة ومجسدة للمشروعية الأخلاقية والشرعية القانونية.