فرنسا: سجال سياسات الأمن والهجرة... "اليسار" يكثف حملته المضادة تراجع شعبية ساركوزي، وتظاهرات التعبئة والاحتجاج ضد سياساته الأمنية، وأفق ما بعد الانسحاب الأميركي الجزئي من العراق، موضوعات ثلاثة استقطبت اهتمام كُتاب افتتاحيات الصحف الفرنسية. عدم شعبية ساركوزي في مقال لصحيفة لوموند بعنوان "الرئيس في مواجهة تناقص شعبيته" اعتبرت أن على ساركوزي إذا كان يريد حقاً تحسين شعبيته لدى الرأي العام أن يجرب ممارسة الحكم بطريقة مختلفة تماماً عما يفعله الآن. وأول ما يتعين عليه المبادرة به على هذا الطريق هو أن يهتم بأداء حكومته أولاً، وأن يتبنى مواقف عامة متوازنة تجعله شخصية جامعة وضامنة لوحدة الفرنسيين، بدل لعب دور ممزق الصفوف والباحث عن افتعال الصراعات. وإذا كان يريد حقاً ألا تظل شعبيته بهذه الدرجة من التراجع عليه الإقلاع أيضاً عن استعارة خطاب "الجبهة الوطنية" واليمين المتطرف، وخاصة من خلال الربط المستفز بين قضايا الأمن والهجرة، وهذا سيقتضي منه طبعاً تنبيه وزير داخليته إلى عدم جواز استهداف أية مجموعة عرقية بأية تدابير ذات صلة بسياسات الهجرة، أحرى أن تتواصل سياسات التهجير الجماعي، بطريقة استعراضية صاخبة، كما جرى مؤخراً للغجر. ويتعين على ساركوزي أيضاً أن يهتم بعدم تقديم نفسه على أنه زعيم لليمين الفرنسي وحده، في مواجهة بقية سكان البلاد. كما أن عليه -باعتباره رئيساً لكل الفرنسيين- أخذ مسافة أمان مناسبة من الرئاسة المباشرة لحزبه "الاتحاد من أجل حركة شعبية"، وكذلك الحرص على عدم عقد الاجتماعات الحزبية مع قيادات فصيله السياسي في قصر الجمهورية بالذات. ولا بأس لو اعترف ساركوزي أيضاً بأن الواقع الجديد الذي فرضته الأزمة المالية العالمية يلزمه بإجراء تعديلات محسوسة على وعود حملته الانتخابية. هذا ما كان يفترض أصلاً أن يبادر إليه ساركوزي، تقول الصحيفة، ولأنه لا يبدي أدنى اهتمام بمثل هذه المواقف التي من شأنها تحسين شعبيته، لذلك لا يبقى وارداً سوى الاستنتاج بأنه غير مهتم أصلاً بتحسين هذه الشعبية، أو أنه لا يوليها أصلاً أهمية على اعتبار أنها غير ذات قيمة، من الأساس، طالما أن سيد الأليزيه يستند إلي أغلبية برلمانية كبيرة، ويأنس من نفسه البراعة الكافية لترويض واحتواء الحركات الاجتماعية والنقابات ومصادر الإزعاج الأخرى الكثيرة. ويبدو أن ما يهمه في الأساس ليس الحصول على شعبية مرتفعة طيلة فترة ولايته الحالية، وإنما العمل كيفما شاء، حتى إذا جاء موعد استحقاق رئاسيات 2012 يجد نفسه في وضع يسمح له بالفوز بها، بهذه الطريقة أو تلك، وهو رهان مجازف ومحفوف بالشكوك، بشكل كبير. ومن جهة أخرى ما زالت معظم الصحف الإقليمية الفرنسية تردد أصداء اعتراف الوزير "وورث" الأخير بالكذب في سياق قضية بيتانكور، في حين ما زال ساكوزي مصرّاً على التمسك به والدفاع عنه. ومقابل هذا التمسك قال جان- مارسل بوجيرو في افتتاحية "لا ربيبليك ديبيرنيه": "لو كنا في السويد أو أية دولة إسكندنافية، أو في المملكة المتحدة، أو الولايات المتحدة، لكان الوزير وورث قدم استقالته دون تأخير، ولكان أعضاء حزبه أنفسهم فرضوا عليه ذلك. ولكن في المقابل في فرنسا... نجد أن آخر ما يفكر فيه أفيال الحزب الحاكم هو الاستقالة في مثل هذه المواقف، متسمِّرين في مواقفهم، مدافعين عما لا يمكن الدفاع عنه، بما في ذلك الحالات الأكثر سريالية من تضارب المصالح وصراعها. والطريف أن هذا الوزير نفسه هو من سيتربع خلال أيام قليلة مقبلة لتقديم تعديل جذري لإصلاح نظام التقاعد"! تظاهرات ضد "الكراهية تم أمس السبت تسيير احتجاجات في مختلف المدن الفرنسية ضد ما يسميه المتظاهرون بسياسة كراهية الأجانب التي تتبناها الحكومة ويغذيها خطاب ساركوزي الرابط بين الهجرة والجريمة وتصريحاته الحادة بهذا الصدد، وكذا عاصفة الترحيل القسري للغجر، وقد استقطبت هذه الاحتجاجات اهتمام معظم كُتاب افتتاحيات الصحف أمس. الكاتب بول كوينو كتب افتتاحية في صحيفة ليبراسيون دعا فيها المعارضة إلى عدم الاكتفاء بمهاجمة الساركوزية على هذه الجبهة تحديداً، لأن اليسار الفرنسي سبق أن دفع ثمناً غاليّاً لمثل هذه الاستراتيجية أحادية البعد في الانتخابات الرئاسية الأخيرة. وإذا لم ينتبه يمكن أن يدفع الثمن ذاته في الرئاسيات المقبلة أيضاً، لأن الأخطر في سياسة المزايدة الحكومية -حول سياسات الأمن- ليس فقط تداعياتها، وإنما فاعليتها كذلك. ولذا فالمطلوب الآن من اليسار الفرنسي، بدلاً من الدفع بالتظاهرات الاحتجاجية في طول الشارع وعرضه، هو العمل لتقديم سياسات بديلة. صحيح أن الحركة الاحتجاجية في نهاية هذا الأسبوع تؤشر إلى عودة قوية لأطراف المشهد السياسي -بعد العطلة الصيفية- وفي الانتظار، إلى جانب قضايا الدفاع عن القيم الجمهورية ومواجهة سياسة كراهية الأجانب، قضايا أخرى كثيرة منها ملف إصلاح نظام التقاعد، وقضية وورث- بيتانكور، وأزمة حكومة لم يبق لها ما تناور به سوى مزاد تهويل الهموم الأمنية. وفي افتتاحية ثانية كتبها موريس إليريك في "لومانيتيه" قال إن مما يؤسف له حقاً أن يكون الرئيس ووزراؤه المحاربون هم من يغذي ذرائع خطاب سياسات الأمن والهجرة الانتهازية التي لم تحقق حتى الآن شيئاً على أرض الواقع، وفي الوقت ذاته تحول كل المهاجرين الأجانب على الأراضي الفرنسية إلى متهمين سلفاً. ويذهب الكاتب إلى أن الحكومة إن كانت في حالة ضعف شديدة الآن، إلا أن ذلك لا ينبغي أن يكون سبباً لخلود المعارضة للأوهام، بل لابد أن يكثف اليسار نضالاته في مواجهتها، وأن يقدم السياسات البديلة والكفيلة بإصلاح أوجه الخلل في سياساتها. بغداد ما بعد الانسحاب مراسلة صحيفة ليبراسيون في بغداد "أديث بوفييه" تساءلت في عنوان مقال عن الأفق الذي تفتح عليه شرفات ما بعد الانسحاب الأميركي من العراق، مشيرة إلى أن الأميركيين انسحبوا بطريقة حذرة تكاد تقارب المشي على رؤوس الأصابع، كما أن الحفلة التي تم فيها الإعلان رسميّاً عن ذلك جرت في "المنطقة الخضراء" ولم يتمكن من حضورها سوى عدد من القادة والعسكريين الأميركيين إضافة إلى بعض الساسة العراقيين. وعلى رغم ما تردد مؤخراً بخصوص السجال بشأن جاهزية، أو عدم جاهزية، القوات العراقية، حرص الجميع على إطلاق تصريحات مطمئنة. ولكن في مقابل تلك التطمينات تنتقل المراسلة لتسجيل شهادات وانطباعات العراقيين العاديين حول الحدث ودلالاته وسقف التطلعات التي يمكن أن تتحقق بعده، مشيرة بشكل خاص إلى بعض التحديات الضاغطة الآن بشكل مباشر مثل الحاجة إلى تحسين الخدمات، والعمل على احتواء التحديات الأمنية القائمة والمتوقعة. هذا في حين يقدم الخبير الفرنسي في شؤون العراق جيرار شاليان، في مقابلة مع ليبراسيون أيضاً، صورة أخرى أكثر تشاؤماً حيث يعتبر أن "كل شروط الانزلاق نحو موجة عنف جديدة قد احتشدت" وخاصة بعد انسحاب القوات الأميركية الكامل في نهاية 2011، مدللاً على رأيه بما يعتبره حالة عدم يقين مخيمة على الوضع الآن في بلاد الرافدين، وخاصة في ضوء مرور خمسة أشهر على الانتخابات التشريعية دون أن تتمكن الكتل السياسية من تشكيل حكومة على رغم دقة اللحظة وحساسيتها وضغوطها اللانهائية، هذا زيادة على تدخلات واستقطابات بعض دول الجوار. ولذا فالأرجح أن يطلب رئيس الوزراء المقبل من الأميركيين إبقاء وحدات لضمان ردع جماعات العنف، والحيلولة دون ارتماء البلاد في صراعات مذهبية طاحنة، لو حدث انسحاب أميركي كامل في الموعد المقرر. إعداد: حسن ولد المختار