حتى يوم 2010/8/31، وبعد أن تحدد تاريخ انطلاق المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين، كان الحديث متركّزاً على العقبات التي وضعها الإسرائيليون للحيلولة دون انطلاق التفاوُض ونجاحه. إنما في التاريخ المذكور، قامت كتائب عز الدين القسّام التابعة لحركة "حماس" في الضفة الغربية، بعمليةٍ ضد المستوطنين في مستوطنة "كريات أربع"، على مقربةٍ من مدينة الخليل، وقُتل في العملية أربعةُ مستوطنين. ومع أنّ العملية ما منعت بدءَ التفاوُض بعد احتفال الافتتاح في 9/1؛ فإنّها أَربكت الطرف الفلسطيني، وأثبتت "صواب" وجهة نظر نتنياهو، والذي ظلَّ يعتبر المشكلة الرئيسية هي مشكلةُ الأمن. وقد استنكر عباس العملية لأنّ هدفها إحباط التفاوض وليس مقاومة الاحتلال. بيد أنّ فلسطينيين آخرين قالوا إنّ هذا الحدث يُثبت أنّ المستوطنات والمستوطنين هم العقبة الرئيسية في وجه المفاوضات والسلام. إذ المفروض أن تقوم الدولة الفلسطينية على أراضي وحدود عام 1967، بينما يظل المحتلُّون الإسرائيليون مواظبين على الاستيطان داخل الخطّ الأخضر، وداخل حدود الدولة المُفتَرَضة. لكنّ الرئيس الفلسطيني يعرف بالفعل أنّ هذه العملية سياسية؛ إذ لماذا لم تقُم "حماس" إلاّ الآن بقتْل المستوطنين وعلى مشارف بدء التفاوُض! وكانت الفصائل العشرة الرافضة قد أعلنت قبل أُسبوعين من دمشق أنها ضدّ التفاوُض، وأنها تعتبره تنازُلاً عن حقوق الشعب الفلسطيني، وخيانةً للمُقاومة. وهكذا، وبالتوازي مع بدء التفاوُض، نشِبَ جدالٌ من جديد بين الفلسطينيين بشأن شروط المصالحة بين "فتح" و"حماس"، وبشأن الوثيقة التي صاغتْها مصر ووقّعتْها منظمة التحرير، ولم توقّعها "حماس". وبذلك فإنّ "حماس" تعتبر تلك العملية بجوار الخليل، ليست ضغطاً على إسرائيل، بل ضغط على السلطة الفلسطينية، وإنذار بأنها لن تدَعَ المفاوضات تمرُّ حتّى تُلبَّى شروطُها لجهتين: لجهة تعديل الوثيقة المصرية للمصالحة، ولجهة إشراكها (بشروطها هي) في العملية السلمية، بعد أن كسبت الانتخابات عام 2006، واستولت على غزة عام 2007. وتستطيع إسرائيل أن تقولَ الآن إنّ السلطة الفلسطينية لا تستطيعُ أن تكون شريكاً حقيقياً في العملية السلمية، لأنه على فرض التوصل إلى اتفاق له جوانبه الأمنية والسياسية والجغرافية؛ فإنّ السلطة لا تستطيع الوفاء بشروط الاتفاق، ما دامت لا تتمكن من حفظ الأمن حتى في مناطق سيطرتها في الضفة الغربية. وبوُسْع السلطة الفلسطينية بالطبع أن تقول إنّ الأمن في الضفة الغربية ليس بيد السلطة، بل ما يزال بيد إسرائيل، وهناك مسؤولياتٌ مشتركةٌ بين الطرفين عنه! وعلى أيّ حال؛ فإنّ عملية "حماس" ضدَّ المستوطنين في الضفة عشية بدء المفاوضات، تُظهر أنّ الأعباء التي تتحملها السلطة الفلسطينية، لا تقلُّ فداحةً عمّا تتحمله إسرائيل في نظر العرب والمجتمع الدولي. ففي إسرائيل حكومةٌ واحدةٌ وقرارٌ واحد؛ فيما لم يعد هناك قرارٌ واحدٌ لدى الفلسطينيين بعد وفاة عرفات عام 2004. وعلى فرض تمكُّن السلطة، رغم عمليات "حماس" و"الجهاد"، من متابعة التفاوُض وبلوغ بعض النتائج؛ فإنّ "حماس" تستطيع القول إنها في الحدّ الأدنى ستحتفظ بالسيطرة على غزة مهما كلَّف الأمر، حفظاً لحقوق الشعب الفلسطيني، وللإبقاء على حيوية القضية التي ضيّعت السلطة بتنازُلاتها الكثير منها. ولنعُدْ إلى متن القضية. لقد بدأ التفاوُض "دونما شروطٍ من أيّ نوع"، حسبما تقول إسرائيل، وحسبما أعلنت وزيرة الخارجية الأميركية. أمّا السلطة الفلسطينية فتقُول إنها استجابت من حيث الشكل لدعوة أوباما، ومن حيث المضمون فإنها استندت إلى بيان الرُباعية، وفي البيان المذكور تنويهٌ بالمرجعية وبوقف الاستيطان وبخريطة الطريق وقضايا الحلّ النهائي. ولا ندري بتفاصيل بدء التفاوُض أو موضوعاته. والذي يظهر أنّ هناك مشاوراتٍ بين ميتشل والأوروبيين والروس، وأنّ هؤلاء ربما وضعوا "جدول أعمال" أو "خريطة طريق" للمفاوضات. والمعروف أنه إلى جانب ميتشل هناك فريقٌ تفاوضيٌّ عريقٌ موروثٌ من أيام الرئيس كلينتون بإدارة دينس روس، ما يزال يتولى مسؤوليات في الجانب الأميركي، وقد أصدر بعض أعضائه كتباً حول المراحل السابقة وكيف تمت ولماذا فشلت وما هي المسائل والأساليب التي يكون على الإدارة تجنُّبها لعدم تكرار الأخطاء. والفلسطينيون والإسرائيليون يملكون خبراتٍ كبرى وعلى مستويات متعددة. وهذا يعني أنه لا أحد من المشاركين المباشرين أو القريبين تخفى عليه التفاصيل، ولذا فالأمر سوف يؤول عاجلاً أو آجِلاً إلى أن تبادر الولايات المتحدة إلى انتقاء عناصر من مقاربات الطرفين، لتكونَ هي مضامين جدول الأعمال، كما يكونُ على واشنطن في كلّ موضوع أن تقترح المخرج حتّى لا يتوقّف التفاوُض. لقد كانت المنهجية السابقة أنه عند كلّ مفترق، وعندما يتعسّر التقدم؛ فإنّ المسألة الخلافية يجري تأجيلُها والانتقال إلى المسألة التالية. والمسائلُ المُشكلةُ تلك هي التي سُمّيت قضايا الحلّ النهائي، وهي: الحدود والقدس واللاجئون والمياه. والأمر الآن أنه لم يعد هناك وقتٌ لتأخير المسائل وتأجيلها، ولابد من السير مسألةً مسألةً إلى النهاية دونما تهرُّبٍ أو تأجيل. وهذه هي وظيفةُ الولايات المتحدة. هناك الآن مشكلتان عسيرتان، إحداهما طرحتْها إسرائيل أيام أولمرت ونتنياهو، والأُخرى طرحها ويطرحها الفلسطينيون. فالفلسطينيون يريدون توقّف الاستيطان الذي تسارعت خطواتُهُ أيام حكومة نتنياهو الذي كان قد أعلن عن وقفٍ جزئيٍ للاستيطان خارج القدس لمدة تسعة أشهر، تنتهي في 9/26، وهذه مسألة قد تُفجّر التفاوُض بعد ثلاثة أسابيع على بدئه. فنتنياهو أَعلن مراراً أنه لن يُمدّد وقف الاستيطان. وسبق أن قال الشيءَ نفسَه لأوباما وللرئيس مبارك والملك عبدالله الثاني. وهذه المسألة بالنسبة له ليست عقائدية أو نظرية؛ بل كما قال تُهدّد بفرط عَقد حكومته. أمّا السلطة الفلسطينية فلا تستطيع التنازُل في هذه المسألة قيد أُنمُلة، إذ تكفيها إحراجاتُ "حماس" والثوريين الآخرين، ثم إنها تنازلت كثيراً قبل بدء التفاوُض، وستنهارُ كُلُّ حُججها إنْ تنازلت في هذه المسألة. ويقول الأوروبيون والروس إنّ المخرج من هذا المأزق قد يكون بتعديل الحكومة الإسرائيلية، وإحلال تسيبي ليفني و"كاديما" محلَّ ليبرمان و"شاس". لكنّ نتنياهو غير آمنٍ لهذه الناحية، ويخشى بخروج المتطرفين أن يُضطر للدخول في انتخابات مبكِّرة، بدلاً من البقاء في السلطة للعام 2013! كيف تنحلُّ هذه المسألةُ إذن؟ لا أحد يعلمُ على نحوٍ واضح، إنما ألزم الطرفان نفسيهما عَلَناً بأُمورٍ متضادّة: نتنياهو قال إنه لن يجدّد وقف الاستيطان، وعباس قال إنه سيقطع التفاوُض إن انتهى وقف الاستيطان! أمّا الشرط الإسرائيلي المسبَق والمعلَن فهو الإصرار على موافقة الفلسطينيين المسبقة على يهودية الدولة، والحكمة الإسرائيلية من وراء ذلك أنّ هدف التفاوُض الوصول إلى إعلان قيام دولةٍ للفلسطينيين، فتكونُ الدولةُ الأخرى القائمة دولةً لليهود. أمّا الفلسطينيون فيرفضون ذلك رفضاً قاطعاً لأنهم يخشَون من ورائه أمرين اثنين: تهديد وجود المليون ونصف المليون فلسطيني في الدولة الإسرائيلية القائمة، وإلغاء حقّ العودة لعدة ملايين من الفلسطينيين. لكنْ رغم صعوبة إيجاد حلول لقضية الاستيطان، وحلول لمسألة يهودية الدولة؛ فإنّ المشكلة الأصعَب، تظلُّ قضية القُدس. فكل طرف يصر على أن تكون المدينة المقدَّسة عاصمةً لدولته. ويتواضع الفلسطينيون فيذكرون القدس الشرقية، بينما يصر الإسرائيليون على بقائها موحَّدة تحت سيطرتهم. ثم هناك قضية الأماكن المقدسة بالمدينة، والتي لا يرى الكاثوليك أن ينفرد الفلسطينيون والإسرائيليون بالفصل في شأنها. والذين خارج المفاوضات وعلى مقربةٍ منها فريقان: الفريق الذي يخشى فشل التفاوض، وهو الفريق الذي يريد التسوية من العرب واليهود، والفريق الذي يخشى نجاح التفاوُض، وهو الفريق الذي لا يريد التسوية من العرب واليهود والإقليميين. وكلٌّ من الفريقين تشتدُّ خشيتُهُ على نفسه، إن لم يحصل ما يتوقعه! لقد بدأ التفاوُض الإسرائيلي- الفلسطيني، أخيراً، غير الممكن فيه أكثر من الممكن، فكيف تكونُ الحلولُ الوسط؟ هذا ما تحسمُ فيه الشهور القليلة المقبلة.