"في وقت لا تبدو فيه أوضاع الصحافة المكتوبة على ما يرام، يكون من المفيد التنبيه إلى نقاط ضعفها، وتكاليف إنتاجها الباهظة، وأعبائها النقابية، وما تعانيه من غياب الرسالة والعمق. وليس سرّاً أن الصحافة اليومية الفرنسية المكتوبة أصبحت واحدة من أقل الصحافات قراءة على مستوى العالم"، هذا ما يذهب إليه مؤلفو الكتاب الذي نشير هنا بإيجاز إلى بعض محتوياته وعنوانه: "هؤلاء صنعوا الصحافة: تاريخ الجرائد في فرنسا من خلال 40 وجهاً"، الذي صدر مؤخراً بإشراف من اثنين من أكبر المتخصصين في مجال الصحافة وتاريخها وهما الكاتبان "إيف آنجيس" وباتريك إيفنو". ولكن على رغم هذا التوصيف السلبي لواقع الصحافة الفرنسية الراهن إلا أن ذلك لا يمنع أيضاً الكاتبين من الاعتراف بحقيقة أن الإعلام الورقي الفرنسي بالذات يستند إلى تاريخ عريق، تنتسج ضمنه قصة كبرى تستحق أن تروى هي أيضاً بكل تفاصيلها ونجاحاتها وإخفاقاتها، وبكل ما فيها من وجوه وأبطال. إنها قصة صعود الصحف الورقية في فرنسا التي يؤرخ لها الكتاب، من خلال تتبع سيَر أبرز الشخصيات الصحفية الفرنسية المؤثرة في كل الأزمنة من الناحيتين التاريخية والمهنية. وقد اختار مؤلفو الكتاب تتبع ورسم ملامح وتجربة 40 شخصية تحديداً اعتبروها هي الأبرز في تاريخ الصحافة الفرنسية. وهكذا خلال فصول الكتاب يقف القارئ على 40 وجهاً بارزاً من وجوه الصحافة، ويكتشف 40 مغامرة ومصيراً مدهشاً في دوامات مهنة المتاعب. وضمن الأربعين وجهاً يصادف القارئ أسماء من مدارس وعهود مختلفة ابتداءً من "رينودو" الذي أطلق سنة 1631 "لا غازيت" وهي تعتبر تاريخيّاً أول مطبوعة فرنسية ذات طابع صحفي، وصولاً إلى "فرديريك فوييو" الذي كان أول من نقل إلى فرنسا تجربة الصحافة المجانية سنة 2002. وخلال الأجزاء الأربعة التي يتألف منها الكتاب نصادف رجالاً من أزمنة وأمكنة ومشارب مختلفة ممن طبعوا بصماتهم بقوة على تاريخ الصحافة الفرنسية مثل "ميرابو" من عهد الثورة، والأديب أميل زولا، والسياسي جورج كليمنصو، وغيرهم كثير. وفي تضاعيف الكتاب يكشف مؤلفوه بعض الحقائق غير الشائعة حول تاريخ الصحافة المطبوعة، منها مثلاً أن عهد الصحف كثيفة التوزيع قد بدأ في فرنسا سنة 1890 مع "لوبيتي جورنال" (الصحيفة الصغيرة) التي كانت أول مطبوعة تكسر حاجز بيع المليون نسخة يوميّاً، وكان سبب نجاحها المدوي حينذاك تمكنها من تطوير وسائل الترويج والتسويق، وخلقها لشبكة توزيع شديدة الفعالية. وفي سنة 1930 وصلت أيضاً مبيعات "لوبيتي باريزيان" إلى 1.5 مليون. واستمر رواج الصحافة المطبوعة اليومية كذلك في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، إلى نهاية الخمسينيات من القرن الماضي حيث كانت "فرانس سوار" مثلاً تبيع 1.2 مليون نسخة يوميّاً، في حين كانت "لوباريزيان ليبريه" تبيع 920 ألف نسخة حتى سنة 1969. ولم يبدأ انتكاس الصحافة المكتوبة وانحسار شعبيتها عمليّاً إلا بعد تغول دوْر الإذاعة أولاً، ثم التلفزيون لاحقاً، "حيث كان الناس في السابق ينزلون من بيوتهم لشراء «فرانس سوار»، أما الآن فعلى العكس، فقد أصبحوا يصعدون إلى البيوت لمشاهدة التلفزيون". وحول تقاليد الصحافة الفرنسية وبعض المبادئ المهنية المرعية فيها يجمع مؤلفو الكتاب بعض الأقوال المأثورة كقول "هيبوليت دوفيلمسان" مؤسس صحيفة لوفيغارو الشهيرة: "ستضيع جريدتي في اليوم الذي تصبح فيه مرتبطة بحزب أو محسوبة عليه، لن تعود إذن لوفيغارو" التي أعرفها (والمفارقة أن صحيفته هذه الآن تعد من أكثر الصحف استقطاباً حزبيّاً، وأشدها قرباً من ساركوزي). يذكر أن مؤلفي الكتاب المشرفين يعتبران من أبرز المشتغلين في عالم الصحافة، حيث إن "إيف آجنيس" رئيس تحرير سابق لصحيفة لوموند ويتولى قيادة معهد تدريب الصحفيين، كما أصدر كتباً مهنية شهيرة تعتبر من المراجع الكلاسيكية في مجالها. وأما "باتريك إيفنو" فهو أستاذ تاريخ الإعلام في جامعة باريس 1 - السوربون، ويدرس في المدرسة العليا للصحافة. كما ألف عدة كتب حول وسائل التأثير في الإعلام، وكذلك له كتاب شهير عن تاريخ جريدة لوموند. أخيراً، تكمن أهمية هذا الكتاب من موضوعه. إذ مع أن ثمة عبارة شهيرة لألبير كامو تقول: "إن الصحفي هو مؤرخ اللحظة"، إلا أن الصحفيين نادراً ما التفتوا للتأريخ لمهنتهم الخاصة، حيث إن هذا الكتاب يسجل بطريقة موثقة تاريخ الصحافة الفرنسية المطبوعة، وذات الدور والتقاليد الرائدة أوروبيّاً وعالميّاً. وإن كان العنوان الفرعي للكتاب: "تاريخ الجرائد في فرنسا من خلال 40 وجهاً" يبدو هو العنوان الحقيقي عمليّاً، في حين أن العنوان الرئيس يبدو أقرب إلى أحكام القيمة المجانية، كما لا يخلو من خطابة دعائية للكتاب نفسه، لزوم الإثارة لدغدغة شهية القارئ بشيء من الاستفزاز الذي قد يلامس حدود الابتزاز. حسن ولد المختار الكتاب: هؤلاء صنعوا الصحافة: تاريخ الجرائد في فرنسا من خلال 40 وجهاً المؤلفون: مجموعة مؤلفين بإشراف "إيف آيجنيس" و"باتريك إيفنو" الناشر: فيبرت تاريخ النشر: 2010