كانت الفترة التي قضاها رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير في الحكم مثيرة للجدل. وحتى عندما خرج من منصبه، لم يتوقف الجدل حوله. ومن هنا كان تلهف القراء على صدور مذكراته التي نشرت منذ أيام في كتاب يحمل العنوان: "توني بلير: رحلة". ومنذ بداية الكتاب يعمل بلير على أن يبدو صادقاً في أعين القراء، عندما يقول إنه بعد أن فاز بانتخابات 1997 فإن الشعور الذي سيطر عليه لم يكن السعادة الغامرة كما هو متوقع، وإنما الخوف من المسؤولية.. مسؤولية قيادة حكومة لا يعرف آليات عملها على نحو كافٍ. وبعد هذه البداية، يلجأ بلير إلى استراتيجية كتابية دفاعية وهي استراتيجية قد يرى البعض أنها قد تقلل من مصداقية الحجج التي سيسوقها لاحقاً في كتابه لتبرير القرارات التي اتخذها عندما كان في " 10 داونينج ستريت"، مقر رئاسة الحكومة البريطانية. و الكتاب لا يخلو من بعض الاعترافات المثيرة مثل قوله في معرض حديثه عن الأميرة الراحلة "ديانا سبنسر" إنه يشترك معها في صفة معينة وهي "القدرة على فهم عواطف الناس بسرعة شديدة ثم التلاعب بتلك العواطف فيما بعد لنيل القبول والإعجاب". ومنها قوله عن خلفه "جوردون براون" " إنه رجل صعب للغاية ويمكن في بعض الأحيان أن يدفعك إلى حافة الجنون". ويصر بلير على أن ينسب لبراون وعناده كافة المشكلات الأساسية التي عانى منها حزبه، وينسى دوره هو في الحرب الداخلية التي احتدمت في حزبه في سنواته الأخيرة والتي لا تزال نارها مشتعلة حتى اللحظة. أما عن حليفه الأميركي، الذي كان له تأثير كبير عليه خلال الجزء الأكبر من سنواته في السلطة، فكان من ضمن ما قاله عنه:" لقد أعيد انتخاب بوش لفترة ولاية ثانية. وبصفتي ديمقراطيّاً، كان من المفترض أن أؤيد المرشح الديمقراطي جون كيري الذي أعتقد أنه كان سيصبح رئيساً جيداً، ولكن الموضوع كان يتخذ معنى آخر وهو أن هزيمة جورج بوش تعنى تماماً هزيمة توني بلير". ويسرد بلير الأساليب التي استخدمها في هزيمة طابور طويل من الخصوم من حزب "المحافظين" الذين يوزع عليهم الصفات فيصف "جون ميجور" الذي كان قد تولى رئاسة الوزراء بعد تاتشر بأنه رجل ضعيف، ويصف "جون هوارد" بأنه انتهازي، و"ديفيدكاميرون" بأنه سياسي متقلب لا يعرف له اتجاه. وفي حديثه عن الأمير شارلز يحاول بلير أن يبرُز باعتباره رجلا قادراً من خلال الحدس على معرفة عواطف الشعب فيقول: "إن الأمير يقلل من أهمية أن الشعب بات يفهمه الآن على نحو أفضل من أي وقت مضى ويبدو مستريحاً تماماً إليه". بيد أن هذا النوع من القدرات الحدسية لم يفده كثيراً في الجزء الذي تحدث فيه عن العراق، والذي حاول فيه أن يستخدم تلك اللغة التي تحاول أن تكتسي بنبرة حماسة شبه دينية مثل تلك التي استخدمها أمام لجنة تحقيق "شيلكوت" حيث يقول مثلا: "لقد ذرفت دموعاً غزيرة على الضحايا الذين لقوا نحبهم في تلك الحرب من عسكريين ومدنيين". وفي موضع آخر يقول على رغم كافة الانتقادات التي وجهت لنا فإننا "قد جعلنا العراق مكاناً أفضل عندما خلصناه من صدام". ويحاول تبرير الأمر بأن "الحادي عشر من سبتمبر كان بمثابة إعلان حرب ضد الغرب". وعلى رغم ما يقوله حول هذه النقطة إلا أن ذلك لم يكن داعيّاً بحال لأن ينساق الغرب وراء استفزاز الإرهابيين. غير أن بلير يورد مع ذلك عبارات يفهم منها أنه يشعر في قرارة نفسه بالندم حين يقول: "لو كنت أعرف حين اتخذت قرار الدخول في تينك الحربين (العراق وأفغانستان) أننا وبعد انقضاء عقد من الزمن سنكون لا نزال نخوض الحرب في أفغانستان لكان قد تملكني القلق والاضطراب" ويضيف "لم نأخذ في حسباننا تلك القبضة القوية التي يمكن للتطرف أن يمارسها على الخيال، وعلى الإرادة، وعلى طريقة الحياة الخاصة بمن يعتنقونه". ويمضي بلير أيضاً فيما يشبه الاعتراف بالذنب فيقول "ما هي طبيعة التهديد الذي كان يواجهنا؟.. الحقيقة أنه لم يكن ناتجاً عن شيء قمنا به نحن... وفي رأيي أنه لم يكن هناك معنى والأمر هكذا لأن يسعى الغرب إلى المواجهة". وعلى رغم هذا الاعتراف إلا أن بلير مع ذلك يبدو وكأنه على استعداد لتكرار الخطأ نفسه، حين يصر على ضرورة خوض حرب ضد إيران، لإجبارها على التخلي عن برنامجها النووي. أما عن نهاية الكتاب فإن بلير يلخصها بقوله "لقد بدأت هذا الكتاب كنمط معين من القادة وانتهيت منه وقد أصبحت قائداً من نمط آخر.. وهي عبارة صحيحة إلى حد كبير، فالرجل بدأ فعلا كرئيس وزراء يتمتع بشعبية جارفة، ويحمل لشعبه أمالا عريضة بتحويل بلاده إلى مكان أفضل وأكثر عدالة، ولكنه أنهى رحلته كسياسي مشكوك في صدقيته.. سياسي ساهم بصرف النظر عن الأسباب التي يسوقها في شق صفوف حزبه وزج بأمته في حرب ما زالت تثقل ضميرها وقد تبقى لفترة طويلة في المستقبل. سعيد كامل الكتاب: توني بلير: رحلة المؤلف: توني بلير الناشر: هتشنسون تاريخ النشر: 2010