باتت العقيدة الدينية تتحكم، على نحو مطرد، بالمجتمع الإسرائيلي حتى تراجع عدد الإسرائيليين المصنفين علمانيين، وتهوَّدت الأيديولوجيا الصهيونية بعد أن نشأت علمانية، وأصبح الصراع -في نظر كثير من الإسرائيليين- امتداداً لتدمير الهيكل المزعوم. ولربما أضحت العقيدة اليهودية هي المحرك الأول لإسرائيل بدل المصالح السياسية، فلم تنجح القرارات الأممية ولا ضغوط الأسرة الدولية في ردعها عن فرض الأمر الواقع في الأراضي الفلسطينية المحتلة 1967. وتتجلى السياسة الإسرائيلية هذه بوضوح في ميلها للتصرف كدولة فوق القانون: "إن كنت قويّاً يحق لك فعل ما تريد"، و"إذا أردت أن تصنف بين الأقوياء أثبت بكل عنجهية أنك قادر على فعل ما تريد"، و"القوانين والمواثيق الدولية تطبق على الضعفاء فقط". وفي كل هذا، لا فرق بين يمين ويسار: لا فرق بين الحاخام "عوفاديا يوسف" رئيس طائفة اليهود الشرقيين والرئيس الروحي لحركة "شاس" الدينية في إسرائيل الذي تمنى، بالأمس فقط، الموت للشعب الفلسطيني وقيادته، أو وزير "الدفاع" الحالي العلماني و"اليساري" الذي أصبح ذيلا لحكومة اليمين المتطرف، "إيهود باراك" أو أحد "أسطع" رموز التطرف اليميني "أفيغدور ليبرمان" ومشاريعه العنصرية وعلى رأسها "لا مواطنة بدون ولاء"، ولا أيضاً "تسيبي ليفني" زعيمة المعارضة الإسرائيلية التي أعلنت أن ممارسة فلسطينيي 48 لطموحهم القومي سيكون في الدولة الفلسطينية وليس في إسرائيل، ناهيكم عن رئيس الوزراء "نتنياهو" وأطروحة "يهودية الدولة الإسرائيلية" التي يطالب الفلسطينيين والعالم الاعتراف بها بعد أن أضحت مفهوماً رئيساً في استراتيجية "الأمن القومي الإسرائيلي". وخلاصة القول هنا إن هؤلاء جميعاً، وما يمثلون من برامج وليس كأفراد فحسب، يتفقون على عدم التّنازل عن أي حق جوهري للفلسطينيين. وفي السياق ذاته، فإن ما تقدم عليه إسرائيل -في أعين مراقبين متزايدين من ضمنهم إسرائيليون- فيه نسبة كبيرة من الغباء. مثلا، الاستعمار/ "الاستيطان"، هو موضوعيّاً، وفي نظر العالم، نقيض لحل الدولتين، وإسرائيل تسير على خطى جنوب أفريقيا في زمانها العنصري. ويقول الكاتب "جادي طؤوف" في مقال "وصمة الاستيطان" في "يديعوت أحرونوت": "لا يفهم الإسرائيليون دائماً معنى الاستيطان في نظر العالم: فمن الخارج، ليس الاستمرار في الاستيطان أقل من برهان ساطع على أن الدولة اليهودية لا تنتمي في الحقيقة إلى العالم المستنير. لأن أولئك الذين يروننا من الخارج يعتقدون أن حكومة إسرائيل تتحدث عن دولتين، لكنها تفعل كل ما تستطيع لتأبيد صورة حكم في المناطق المحتلة، يكون فيها لليهود حق تصويت ولا يكون للعرب، مثل جنوب أفريقيا في زمانها. نحن دولة مع وصمة في جبينها، والاستيطان هو الوصمة. مسموح أن نخمّن أننا إذا ما بقيت النظرة لنا كذلك، سنتحول من كوننا مشبوهين إلى معزولين". فيما يقول الكاتب "ألكسندر يعقوبسون" في مقال بعنوان "دولة ثنائية الوهم": "من الواضح، منذ 1967، أن ليس لإسرائيل خيار بضم المناطق ومنح سكانها جنسية أنها ستكف آنذاك عن كونها إسرائيل. إن تبني خيار الضم وإعطاء الجنسية وهْم. هل يمكن أن نفترض، أن يوافق الشعب الفلسطيني زمناً طويلا على أن يكون الشعب العربي الوحيد الذي لا توجد لدولته صبغة عربية واضحة ولا تعد جزءاً من العالم العربي؟ أمن المنطقي أن نفترض، أن يوافق الفلسطينيون على القيام بهذا التنازل من أجل (النبتة الغريبة) الصهيونية؟". في السنوات الأخيرة، خسرت إسرائيل كثيراً من الصورة التي جلبت لها التعاطف الغربي العالمي الذي بات مستاءً بسبب الممارسات الإسرائيلية المتكررة. فلا بطولة في الاعتداء على المتضامنين الأجانب، سواء في عرض البحر الساعين لكسر الحصار المفروض على قطاع غزة، أو في تظاهرات الاحتجاج ضد "المستوطنات"، أو ضم أراضٍ فلسطينية لغايات توسعة جدار الفصل العنصري. وإذن، فإسرائيل الآن في أعين الكثيرين في الغرب، بل وفي إسرائيل، دولة غير عقلانية وهستيرية وتعاني جنون الارتياب. لذا، يتزايد عدد القائلين في إسرائيل والغرب بأن على العالم وقف الجنون الإسرائيلي، دون أن يقتصر موقفه من الممارسات الإسرائيلية على مجرد إدانات لفظية. بل إن إسرائيل وضعت المنطقة في "حالة حرب" دائمة من خلال استمرارها بعمليات اقتطاع الأراضي و"الاستيطان" وتهويد القدس ومحاصرة قطاع غزة وغير ذلك. وفي هذا الصدد، انظروا إلى ما يقوله "كبار القوم" في الغرب، علاوة على قيادات متكاثرة على امتداد يهود العالم. ويأتي تدهور علاقات إسرائيل بالعالم الخارجي نتاج ممارساتها وما تقترف، وبفضل ازدياد الوعي الدولي وتحول العالم إلى قرية بحيث بات بإمكان أي مواطن عالمي أن يتابع كل الأحداث، وخاصة أن هذه الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة لا تزال تصر على عدم رؤية قبحها وقبح سياساتها فتتوغل بعيداً في العقلية العدوانية العنصرية ذاتها. وفي مقال بعنوان: "القوة الإسرائيلية... بلا هدف في البحر"، للكاتب الإسرائيلي "عاموس عوز" في "نيويورك تايمز" يورد مثالا عن الدولة الصهيونية فيقول: "رجل يملك مطرقة كبيرة إذ تبدو كل مشكلة وكأنها مسامير"! ومن منظورنا، معروف أن المشروع الصهيوني بجوهره هو مشروع استعماري، لم يتبن -حتى في لاحق أيامه- أي خطة تستهدف "حل" الصراع. بل إن ذلك المشروع جاء -أصلا- ليخلق الصراع ويفرض ذاته متبنيّاً حل "المسألة اليهودية" كما أرادها ولو على حساب تخليق "المسألة الفلسطينية". ولذا ليس غريباً أن يرى المشروع الصهيوني في الدولة الفلسطينية نقيضاً لإسرائيل. أما الأمر "الغريب" فهو إصرار الدولة الصهيونية على المضي في غيِّها بوصفها كياناً يمضي على درب منطق وممارسة القوة والعنصرية و"الاستيطان" حتى فقدت قدرتها على التحول إلى دولة متوازنة، خاصة مع تمسكها بالأساطير والخرافات التوراتية والتلمودية: عنف عسكري، وعنف سياسي، وعنف اقتصادي، وعنف ثقافي، يعاني منه الفلسطينيون والعرب نعم، ولكنه عنف ستطال ناره الإسرائيليين قريباً جدّاً. ويبقى التأكيد على أن إسرائيل ليست أولى الكيانات التي انتحرت بيد أبنائها!! ونكرر: انظروا ما بات يقوله "كبار القوم" من سياسيين وكُتاب في العالم الغربي، وفي أوساط يهود هذا العالم، بل وفي إسرائيل ذاتها!