تنطلق اليوم المفاوضات المباشرة الفلسطينية- الإسرائيلية في ظل اهتمام أميركي لا سابق له منذ مفاوضات الوضع النهائي التي أجريت تحت رعاية الرئيس الأسبق كلينتون في كامب ديفيد قرب واشنطن في يوليو 2000. وبعد عشر سنوات، يجتمع مفاوضون فلسطينيون وإسرائيليون مرة أخرى في واشنطن. ولكن أهمية واشنطن، بالنسبة إلى هذه العملية والصراع الذي تهدف إلى تسويته، تفوق المفاوضات التي تنطلق اليوم وكل مفاوضات. كانت واشنطن هي القوة الدولية الأكثر تأثيراً في مسار الصراع العربي- الإسرائيلي منذ ستينيات القرن الماضي. ولكنها أصبحت الآن الساحة الرئيسية لهذا الصراع. وهذا هو ما ينبغي أن ندركه ونعمل على أساسه إذا أردنا إنقاذ شيء من فلسطين. فالصراع الآن هو على عقل الولايات المتحدة وقلبها أكثر مما هو صراع على الأرض في الشرق الأوسط. فعندما يضطر الرئيس أوباما إلى التراجع عن عزمه على انتهاج سياسة أكثر إنصافاً في الشرق الأوسط بسبب ضغط اللوبي الصهيوني، فهذا دليل جديد على أن الصراع على فلسطين صار في واشنطن. وعندما يقول نتنياهو إنه يعرف جيداً ماهية الولايات المتحدة وأنها "دولة يمكن تحريكها بسهولة في الاتجاه الصحيح"، فهذا يعني أن تغيير سياسة القوة العظمى الأولى لن يتأتى إذا لم يستطع العرب بدورهم تحريكها في الاتجاه الصحيح بالنسبة إليهم، وبمعايير الحق والإنصاف والعدل التي تنطوي عليها قضية فلسطين. وإذا كان نتنياهو قال هذا الكلام، المسجل في شريط كُشف النقاب عنه أخيراً، لعائلة من المستوطنين قبل عشرة أعوام، فهو سيظل معبراً عن الواقع إلى أن ندرك نحن في العالم العربي أن المعركة الأساسية في مواجهة إسرائيل إما أن تكون في واشنطن أولا تكون. فليس متصوراً أن يدخل البيت الأبيض خلال العقدين القادمين على الأقل رئيس أكثر حرصاً من أوباما على العلاقات مع العالم الإسلامي. وليس متوقعاً، في المدى الزمني نفسه، أن يحكم الولايات المتحدة قائد "استثنائي" آخر يقتنع بما آمن به أوباما حين رفع شعار التغيير في داخل بلاده كما في سياستها الخارجية، ويدافع عن حق المسلمين في بناء مسجد في موقع مثير للجدل، فيُتهم بأنه "يساير التطرف الإسلامي". ومع ذلك يظل ممكناً السعي إلى تغيير السياسة الأميركية المنحازة كليّاً إلى إسرائيل بدون رئيس من هذا النوع في واشنطن حال وجود لوبي عربي يستطيع تحقيق توازن مع اللوبي الصهيوني. وإذا كان هذا يبدو اليوم أمرا مستحيلا أو حلماً من أحلام يقظة أو منام، فلا لشيء إلا لأنه لم يصبح في أي وقت هدفاً تُرسم من أجله الخطط وتُعد له الوسائل. فلا يمكن التطلع إلى هدف ما، في أي مجال، بدون حد أدنى من الاقتناع به والأمل في إمكان تحقيقه. ولم يكن تأسيس لوبي مؤثر في عملية صنع القرار في واشنطن هدفاً من الأهداف العربية في أي وقت منذ أن انحازت الولايات المتحدة إلى إسرائيل في أوائل ستينيات القرن الماضي، على رغم أن هذا الانحياز ارتبط بتنامي نفوذ وفاعلية اللوبي الصهيوني في واشنطن. فقد نجح هذا اللوبي في الإمساك بمفاتيح أساسية في عملية صنع القرار الأميركي الخارجي خلال سنوات قليلة كثَّف خلالها حركته وجدَّد أساليبه ونفذ إلى القطاعات الأكثر تأثيراً على هذا القرار في الكونجرس والإعلام والصناعة والمال. فحتى عام 1956، عندما اتخذت الولايات المتحدة موقفاً منصفاً ضد العدوان الثلاثي الذي شاركت فيه إسرائيل ضد مصر، كان نفوذ اللوبي الصهيوني أقل من أن يسمح بالتأثير على هذا الموقف. ولذلك لم يتمكن من تغييره. صحيح أن الرئيس أيزنهاور كان مدفوعاً بمصلحة قوية للولايات المتحدة في إضعاف النفوذ البريطاني والفرنسي لإخلاء الطريق أمام دورها في الشرق الأوسط. ولكن التطلع إلى سياسة أميركية أكثر إنصافاً تجاه قضية فلسطين الآن لا يتعارض مع مصلحة الولايات المتحدة بل ينسجم معها أشد الانسجام. فالمصلحة الحقيقية لأميركا اليوم هي في سياسة تجفف منابع الغضب المنتج للإرهاب الذي يموت بعض أبنائها في الشرق الأوسط بسببه، أي نتيجة سياستها الراهنة المنحازة لإسرائيل. وهذا هو ما يناقشه بوضوح لا سابق له الكاتب الأميركي دان فليشلر في كتابه الصادر في الربيع الماضي تحت عنوان "اللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة - حدود القوة وآفاق التغيير". فهو يعبر عن اتجاه ما زال ضعيفاً يرى أن سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط تعمل في مصلحة إسرائيل حتى إذا كان ذلك على حساب المصلحة الأميركية. وجديد هذا الكتاب هو دعوة كاتبه إلى تأسيس لوبي جديد يضع حدّاً لنفوذ اللوبي الصهيوني، ويقوم على التوفيق بين المصالح الأميركية والإسرائيلية، ويضم يهوداً وغير يهود معنيين باستقرار الشرق الأوسط. ويعني ذلك أن ثمة فرصة قد تكون سانحة اليوم أكثر من أي وقت مضى لتأسيس لوبي عربي يقوم بمهمة لا تجد من يؤديها الآن، وهي السعي إلى شيء من التوازن في السياسة الخارجية الأميركية لمصلحة الولايات المتحدة وليس من أجل فلسطين فقط. ولكن هذه الفرصة، التي قد لا تنتظر طويلا، لن يمكن اغتنامها بدون مراجعة اعتقاد عربي شائع بأن الطريق إلى عقل أميركا وقلبها موصد بأكثر من ضبة ومفتاح. ولا يقتصر هذا الاعتقاد على أصحاب القرار في بلادنا العربية، بل يشيع أيضاً وربما بدرجة أقوى في دوائر غير رسمية كما في أوساط الجمهور العريض الذي تفيض مشاعره غضباً على الولايات المتحدة كلما ارتكبت إسرائيل جريمة جديدة. فقليل هم الساسة، وكذلك المثقفون العرب، الذين يرون أن التحالف الأميركي- الإسرائيلي ليس قدراً محتوماً أو معطى ثابتاً لا يقبل أي تغيير. ويبدو أن تجربة الرئيس العربي الوحيد الذي راهن على إمكان اختراق هذا التحالف دعمت الاعتقاد في أن الطريق إلى كسب واشنطن مغلق. فقد وضع السادات في أواخر سبعينيات القرن الماضي 99 في المئة من أسهمه، أو ما أطلق عليه أوراق اللعبة، بين يدي الولايات المتحدة وراهن على أن يخترق تحالفها مع إسرائيل عبر سياسة عمادها تقديم "القرابين" بدءاً من طرد الخبراء السوفييت في مصر 1972 وحتى توقيع معاهدة السلام مع إسرائيل 1979. ولكنه خلط بين أميركا ورئيسها واختزل دولة تتعدد مؤسساتها في البيت الأبيض. وقد خاب سعيه لهذا السبب في المقام الأول، وليس لأن التحالف الأميركي- الإسرائيلي أبدي. فهذا تحالف يقوم على مصالح وقيم. فأما المصالح فقد بدأت تتباعد. وأما "القيم المشتركة" فأكثرها مصنوع لا يستحيل كشف زيفه. ولكن هذا سيكون ممكناً فقط في حال وجود لوبي عربي منظَّم يسعى إلى التأثير في السياسة الأميركية.