هناك مقولة يرددها بعض مؤرخي الفكر العربي الحديث، وهي أن مسيرة فكر النهضة قطعها نشوب الانقلابات والثورات في العالم العربي في الخمسينيات من القرن الماضي. فكأن مقدم الثورة شكَّـل قطيعة تاريخية، لو استخدمنا هذا المفهوم الذائع في الدراسات المعرفية. ولكن، إلى أي حد تصدق هذه المقولة؟ لا يمكن الإجابة على هذا السؤال إلا إذا رسمنا الخريطة المعرفية لخطاب النهضة، ونعني المنطلقات الفكرية والممارسات العملية معاً. ويمكن القول إن الفيلسوف المغربي الراحل "محمد عابد الجابري" هو الذي رسم الخريطة المعرفية للعقل العربي في سلسلة كتبه الرائدة عن "تكوين العقل العربي"، و"بنية العقل العربي"، و"العقل السياسي العربي"، و"العقل الأخلاقي العربي". وقد أحدث الجابري ثورة فكرية في الفكر العربي المعاصر، وأثارت مقولاته ونظرياته مناقشات بالغة الخصوبة، لأن بعض المفكرين العرب وافقوا عليها واعتبروها منتجة في الفهم العميق لآليات التفكير العربي، في حين عارضها آخرون، وانتقدوها باعتبارها تمثل تعميمات جارفة يعوزها الدليل. وقد مضت حقبة الاهتمام بالعقل العربي، ولكن برزت حديثاً اهتمامات من قبل مفكرين عرب في المشرق والمغرب والخليج على حد سواء بالنهضة. وهذه الاهتمامات لم تتوقف فقط عند النشأة التاريخية لفكر النهضة الذي انطلق في مواجهة التحدي الغربي السياسي والثقافي، ولكن اتسعت دائرتها لتركز على خطابات النهضة المتعددة في سياق من النقد المعرفي العميق لها. وليس ذلك فقط ولكن بتطبيق مفاهيم ونظريات "علم اجتماع المعرفة" الذي يركز على إسناد المعرفة إلى المجتمع بأنساقه المتعددة السياسية والاقتصادية والفكرية، في محاولة لتحديد الجماعات الاجتماعية التي يعبر عنها المفكرون المختلفون. وانطلاق البحث هنا يجد منطقه في المقولة الرئيسية السائدة في علم اجتماع المعرفة، التي تقول إن كل كاتب أو مفكر إنما يعبر بطريقة شعورية أو لاشعورية عن جماعة اجتماعية ما. وبالتالي فمهمة الباحث في "سوسيولوجيا المعرفة" هي "إسناد" الخطابات التي ينتجها المفكرون إلى الجماعات الاجتماعية التي يعبرون عنها. وحتى لا يكون حديثنا على سبيل التجريد، لو أخذنا الأنماط الأساسية الثلاثة لخطاب النهضة، ونعني خطاب الإصلاح الديني للشيخ محمد عبده، والخطاب الليبرالي للفيلسوف المصري أحمد لطفي السيد، والخطاب الداعي إلى تبني التصنيع والتكنولوجيا الغربية للكاتب الاشتراكي المصري سلامة موسى، لاكتشفنا أن كلاً منهم كان يعبر عن جماعة اجتماعية محددة لها مواصفات وملامح محددة تميزها عن غيرها من الجماعات. فالشيخ محمد عبده على سبيل المثال كان يخاطب جمهرة المسلمين التواقين لتحديث الإسلام في مواجهة التحدي الغربي، بل إنه تجاوزهم في الواقع لكي يخاطب الجمهور العام بكل فئاته، لكي يقنعه بأن الإسلام يصلح أن يكون نموذجاً حضاريّاً يوجه القيم والسلوك، بدلاً من احتذاء النموذج الغربي الحضاري. أما أحمد لطفي السيد فقد كان يعبر في الواقع عن تطلعات جماهير متعددة تأثرت -نتيجة لأسباب شتى- بالحداثة الغربية، وعلى وجه الخصوص بالحداثة السياسية التي تركز في الخلاص من الحكم الشمولي والسلطوي، وتأسيس النظام الديمقراطي بكل ما يتضمنه هذا النظام من حرية التفكير وحرية التعبير وحرية التنظيم والانتخابات الدورية النزيهة، سواء كانت برلمانية أو رئاسية، وذلك في النظم الجمهورية، بالإضافة إلى ملمح ديمقراطي مهم هو تداول السلطة. وإذا نظرنا إلى سلامة موسى الذي كانت ميوله اشتراكية، فقد كان يعبر عن جماهير تأثرت بالفكر الشيوعي والفكر الاشتراكي. وهذه الجماهير كانت تريد أن تقطع مع التراث وتلتحق بركب الثورة الصناعية والتكنولوجية الغربية. غير أن تطبيق منهج "سوسيولوجيا المعرفة" بالطريقة التي أوجزنا الحديث عنها يتطلب أولاً رسم خريطة معرفية لفكر النهضة لتحديد سماته وملامحه الأساسية، بالإضافة إلى التمييز الدقيق بين خطاباته المتعددة، لدراسة مقولاتها الرئيسية وبنيتها الداخلية ووظائفها المبتغاة، قبل الحديث عن مآلها التاريخي، ونقصد ماذا حدث لكل خطاب في مجال التطبيق. وعلى رغم تعدد الكتابات العربية مؤخراً في موضوع فكر النهضة، إلا أننا لا نعدو الحقيقة لو أكدنا أن مقدمة الإبداع الفكري المعاصر فيما يتعلق برسم الخريطة المعرفية لفكر النهضة، يقف فيها الإنتاج الأصيل للدكتور عبد الإله بلقزيز أستاذ الفلسفة بجامعة الحسن الثاني بالمغرب. وعبد الإله بلقزيز فيلسوف مغربي غزير الإنتاج، أنتج فيما يتعلق بموضوع النهضة كتابين على أعلى درجة من الأهمية. الكتاب الأول عنوانه "العرب والحداثة: دراسة في مقالات الحداثيين" (بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية 2007)، والكتاب الثاني "من النهضة إلى الحداثة" (الناشر نفسه، 2009). ويمكن القول إن الخريطة المعرفية التي رسمها بلقزيز لفكر النهضة فريدة من نوعها، وذلك لأنه طبق في تحديد ملامحها وتعيين سماتها المناهج الابستمولوجية (المعرفية) الحديثة، وأدوات تحليل الخطاب، وفق منهج نقدي حداثي صارم. واستطاع بذلك ليس تحديد مقدمات هذا الفكر فقط، ولكن بيان البنية الداخلية لكل خطاب من خطابات النهضة، وطرائق تفاعله مع باقي الخطابات الأخرى، وذلك في ضوء معايير الحداثة المتفق عليها. والواقع أن المراجعة النقدية لفكر النهضة تقتضي -كما ذكرنا من قبل- التركيز على المشكلات الأربع التي سبق أن حددها عبدالله العروي، وهي مشكلة الأصالة، ومشكلة الاستمرار، ومشكلة المنهج الفكري العام، وأخيراً مشكلة أدوات التعبير. وقد حرص عبد الإله بلقزيز في الخريطة المعرفية التي رسمها لفكر النهضة أن يعالج بطريقته كل مشكلة من هذه المشكلات الأساسية. والواقع أن مشكلة الأصالة أو تحديد الهوية العربية أو تعريف الذات، أديرت بشأنها المناقشات المتعمقة منذ بداية النهضة العربية، بحكم الصدام العنيف بين العالم العربي والغرب وما مثله من تحديات جسيمة للوجود العربي ذاته. وحتى بعد حصول الدول العربية على الاستقلال ونهاية عصر الاستعمار التقليدي، فقد ظل مبحث البحث عن الأصالة مستمراً وخصوصاً بعد محاولة الدول الغربية العظمى التي سبق أن استعمرت أو احتلت بعض بلدان العالم العربي الاحتفاظ بنفوذها وفرض هيمنتها السياسية والثقافية على العالم العربي. غير أنه يمكن القول إن الولايات المتحدة الأميركية التي ورثت نفوذ بريطانيا وفرنسا في العالم العربي أصبحت ثقافتها هي السائدة ومن هنا نشأت مقولات التغريب الثقافي العربي والبعد عن الأصالة. كما يمكن القول أيضاً إن مبحث الأصالة تجدد بعد أحداث 9/11 الإرهابية التي هاجمت مراكز القوة الأميركية بعدما شنت بعض الدوائر السياسية والثقافية الأميركية حرباً على الإسلام والمسلمين. بل إن البحث عن الأصالة قد طال المفكرين الأميركيين وفي مقدمتهم "صمويل هنتينغتون" صاحب نظرية "صراع الحضارات" الشهيرة، الذي نشر كتاباً يستحق التأمل عنوانه "من نحن؟ المناظرة الكبرى حول أميركا" (انظر الترجمة العربية للكتاب، لأحمد مختار الجمال، مراجعة وتقديم السيد أمين شلبي، منشورات المعهد القومي للترجمة، 2009). أما مشكلات الاستمرار أي علاقة العرب بماضيهم ومشكلة المنهج الفكري العام، وأخيراً مشكلة أدوات التعبير، فهي تحتاج في الواقع إلى مناقشات مستفيضة.