عندما ألقى الرئيس الفرنسي، خطابه التقليدي الذي يتناول فيه كل سنة السياسة الخارجية الفرنسية أمام جمع من السفراء الأجانب المعتمدين في البلاد، بدا واضحاً أنه في موقف دفاعي يجاهد لرد الكثير من الانتقادات، التي وُجهت مؤخراً إلى سياسته الخارجية سواء من داخل فرنسا، أو من خارجها. تلك الانتقادات انطلقت من وزارة الخارجية الفرنسية نفسها، التي تعيش هذه الأيام أزمة لا يمكن إنكارها، فقبل شهرين نشر وزيران سابقان في الخارجية الفرنسية هما: "ألان جوبي" و"إيبير فيدرين"، رغم انتمائهما إلى خطين سياسيين مختلفين، مقالاً في إحدى الصحف المحلية ينتقدان فيه تراجع الموارد المخصصة لوزارة الخارجية ما يؤثر سلباً على النفوذ الفرنسي في الخارج، وينال من الحضور الفرنسي على الساحة الدولية في العديد من القضايا، ولم تقتصر الانتقادات على شخصيات سياسية معروفة وثيقة الصلة بالسياسة الخارجية الفرنسية بحكم ترؤسها للدبلوماسية، بل امتدت إلى كبار الموظفين في الوزارة عندما عبر مديران سابقان في الوزارة عن نفس الانشغالات والمخاوف من انحسار النفوذ الفرنسي، مفسرين ذلك بتناقص الموارد التي تتيح التحرك بحرية على الساحة الدولية، لكن المسألة ليست فقط في انزعاج البعض مما يجري داخل وزارة الخارجية، بل الأمر يطال أيضاً السياسات العامة الفرنسية، لا سيما تلك التي أثارت جدلًا واسعاً وأثرت على صورة فرنسا في العالم، فقد تعرض ساركوزي لهجوم حاد من المنظمات الدولية والمحلية المدافعة عن حقوق الإنسان عندما قرر طرد الغجر، هذا فضلاً عن تصريحات المسؤولين الحكوميين التي تربط بين الهجرة وانعدام الأمن، ولم يكن مستغرباً في هذا الإطار انتقاد الأمم المتحدة والمفوضية الأوروبية، والبابا للسياسات الحكومية تجاه الأقليات، وهو ما يفسر إلى حد ما عدم إشارة الرئيس ساركوزي أثناء خطابه أمام السفراء الأجانب لحقوق الإنسان، وهو الذي دأب في السابق على التركيز عليها واعتبارها ركناً ركيناً في سياسة فرنسا الخارجية. ساركوزي أيضاً بدا في حالة دفاع عن النفس، وهو يتحدث عن أفغانستان والحرب المستمرة هناك في ظل النقاش الدائر حالياً داخل فرنسا حول جدوى المشاركة في الحرب الأفغانية وتعريض حياة القوات الفرنسية للخطر في وقت لا يبدو فيه أن الحرب على وشك الانتهاء، لكن ساركوزي تشبث بموقفه الداعم لأفغانستان وانتقد التقارير الإعلامية التي تبالغ على حد قوله في التهويل من الوضع القائم ورسم صورة كارثية عن المشاركة الفرنسية، معتبراً أن فرنسا ستبقى في أفغانستان طالما استدعى الأمر ذلك. ولم يغب عن ساركوزي الإشارة إلى الحرب على الإرهاب، بل استهل خطابه بالتشديد بأن تلك الحرب ستظل أولوية فرنسية، وفيما يتعلق بالشرق الأوسط وإيران، أكد ساركوزي على المبادئ التقليدية التي طبعت السياسة الخارجية الفرنسية في السنوات الماضية بالاعتراف بحق إيران في امتلاك الطاقة النووية ذات الطبيعة السلمية، لكن دون التساهل في ضرورة تخلي طهران عن التخصيب باعتباره خطاً أحمر لا يمكن تجاوزه، فضلاً عن تشديده على مساعي السلام في الشرق الأوسط لما فيه من مصلحة للجميع. لكن كيف يمكن لساركوزي إعطاء الانطباع بأن الأمور تسير على ما يرام، وبأن سياسته ماضية قدماً كما خطط لها في الوقت الذي يواجه فيه صعوبات على الصعيد العالمي، وفي وقت تتراكم فيه المشاكل الداخلية وتهدد بتراجع شعبيته، كما أكدت ذلك استطلاعات الرأي التي أجريت مؤخرا؟ وكيف السبيل لإقناع الفرنسيين بأن دور بلادهم مازال قوياً وفعالًا على الساحة الدولية كما عهدوه من قبل؟ الواقع أن ساركوزي يسعى إلى كسب نقاط لصالحه بالإشارة إلى بعض النجاحات مثل إقناعه للاتحاد الأوروبي بتبني فكرة إنشاء حكومة اقتصادية أوروبية، وهي الفكرة التي كانت من المحظورات في السابق لتصبح اليوم حقيقة، وركز أيضاً على الدور الذي لعبته فرنسا في الخروج من الأزمة الاقتصادية التي ضربت منطقة "اليورو" قبل عام من الآن. لكن الفرصة الأهم أمام ساركوزي لاستعادة الشعبية وتسجيل نقاط سياسية هي "مجموعة العشرين"، حيث تستعد فرنسا لتولي رئاسة المجموعة في 12 نوفمبر المقبل، لا سيما وأن ساركوزي لم يتوقف عن ترديد أن مجموعة الدول العشرين، كانت في الأصل فكرة فرنسية، وهو يسعى إلى إعطائها نفساً جديداً تحت الرئاسة الفرنسية في وقت يدفع فيه البعض، بعد انقضاء الجزء الأسوأ من الأزمة الاقتصادية، للرجوع إلى الممارسات التقليدية نفسها، التي أدت إلى اندلاع الأزمة، وفي هذا الإطار وتفادياً لتكرار الأزمة يقترح ساركوزي إصلاح النظام المالي الدولي لوضع حد للاضطرابات في سوق الأسهم، التي هددت النمو العالمي وعرضته للخطر، طارحاً فكرة عقد منتدى يضم أفضل المختصين الدوليين تستضيفه الصين لمعالجة الاختلالات الاقتصادية وضمان عدم زعزعتها للاستقرار، وقد اختار الصين اعترافاً منه بصعودها العالمي ودعوة لها كي تضطلع بمسؤوليتها الدولية، وشكك ساركوزي أيضاً في الدور الذي يلعبه الدولار حالياً، معلناً أن "نظاماً مالياً تسيطر عليه عملة واحدة لا يتماشى مع التعددية القطبية التي يتميز بها عالمنا المعاصر". وبالإضافة إلى إصلاح النظام المالي تطرق الرئيس الفرنسي في خطابه إلى مسألة تذبذب أسعار المواد الغذائية وعدم ثباتها، وهو ما يعتبر عاملاً من عوامل عدم الاستقرار، سواء على المستوى الاقتصادي، أو الاستراتيجي، والذي عكسته مظاهرات الجوع التي اندلعت قبل بضع سنوات، ولم ينسَ ساركوزي في خطابه المطالبة بإصلاح الحكامة الدولية من خلال تأهيل مجموعة دول العشرين وتغيير هياكلها لتصبح مؤسسة تفكر في حل القضايا المطروحة على الأجندة العالمية مثل فرض ضريبة على الصفقات المالية في البورصة. وأخيراً أعلن ساركوزي بعيداً عن نص الخطاب المكتوب قائلًا: "إن دور فرنسا يتمثل في طرح أفكار جديدة، وهو ما يحتاج إليه العالم بشده"، ويريد ساركوزي من وراء ذلك الظهور بمظهر المتطوع لحل مشاكل العالم وطرح الأفكار الجديدة على أمل تحسين صورته وكسب نقاط سياسية، رغم أن دعوات الإصلاح ليست جديدة، بل ترجع إلى الرئيسين ديجول وميتران.