نشرت صحيفة "الأهرام" المصرية يومي 26 و27 من الشهر الجاري ما أسمته بـ"وثيقة عريقات" نسبة إلى الدكتور صائب عريقات رئيس دائرة شؤون المفاوضات بمنظمة التحرير الفلسطينية تحت عنوان "الموقف السياسي على ضوء التطورات مع الإدارة الأميركية والحكومة الإسرائيلية واستمرار انقلاب حماس: التوصيات والخيارات". وقراءة هذه الوثيقة مفيدة للغاية، لأنها تلقي مزيداً من الأضواء على مستقبل المفاوضات المباشرة المزمع عقدها في سبتمبر القادم بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وسوف نجتزئ منها ما يتعلق بالإلحاح الأميركي على المفاوضات المباشرة على رغم تعثر كافة الخطوات قبلها، ففي 15 سبتمبر 2009 وصل جورج ميتشل مبعوث الرئيس الأميركي للشرق الأوسط إلى رام الله، واقترح رسميّاً على الرئيس الفلسطيني المشاركة في لقاء ثلاثي (أوباما -أبو مازن -نتنياهو) يعقد في نيويورك يوم 22 سبتمبر، ويعلن فيه استئناف المفاوضات النهائية، وعندما سأله الرئيس الفلسطيني عما إذا كان الطرف الأميركي قد تمكن من إلزام الحكومة الإسرائيلية بوقف الاستيطان بشكل تام وبما يشمل القدس، وكذلك باستئناف المفاوضات من النقطة التي انتهت عندها في 2008 أجاب ميتشل بالنفي، وعرض بالمقابل رسائل ضمانات من الإدارة الأميركية إلى الجانب الفلسطيني تقر بأن الاستيطان غير شرعي، وكذلك ضم القدس الشرقية، كما تتعهد ببذل كل جهد ممكن لإنهاء المفاوضات خلال 24 شهراً. ولأن "أبو مازن" يعرف معنى الرفض الإسرائيلي و"الضمانات الأميركية" فقد رفض العرض على نحو قاطع، وأعلم ميتشل بأنه لن يحضر اللقاء الثلاثي المقترح في نيويورك، وهنا تراجعت الإدارة الأميركية عن نية إعلان استئناف المفاوضات في اللقاء الثلاثي المقترح، وإن أصرت على عقده لتأكيد التزام الرئيس الأميركي بمبدأ حل الدولتين، وهو ما تم بالفعل. لم تيأس الإدارة الأميركية، وحاولت مرة أخرى الحصول على موافقة فلسطينية على استئناف المفاوضات دون وقف الاستيطان وتحديد المرجعية، وكان ذلك خلال اللقاءات التي جرت بين الإدارة الأميركية (ممثلة في هيلاري كلينتون وجورج ميتشل) ومحمود عباس في أبوظبي وعمان، أو ممثلة في كلينتون وميتشل وجيم جونز (مستشار الأمن القومي) مع د. صائب عريقات في واشنطن وأريحا، إلا أن الرئيس "أبو مازن" واصل رفضه، بل ذهب إلى الإعلان عن نيته عدم الترشح لمدة رئاسية جديدة، مع الاحتفاظ بالحق في اتخاذ خطوات أخرى لم يعلن عنها. وعلى رغم أن الوثيقة بلا تاريخ محدد فمن الواضح أنها كتبت قبل التطورات الأخيرة التي شهدت مرحلة المفاوضات غير المباشرة، وانتهت بـ"القرار الأميركي" ببدء المفاوضات المباشرة في مطلع سبتمبر القادم، وهو ما يعني أن الإدارة الأميركية ثابرت على مسعاها من أجل عقد المفاوضات المباشرة، بل لقد كثفت ضغوطها على الجانبين الفلسطيني والعربي بعد إخفاق المفاوضات غير المباشرة، بما في ذلك تهديد الفلسطينيين بفقدان الدعم الأميركي لعملية التسوية إن واصلوا رفضهم حضور المفاوضات المباشرة، مع أن الاتفاق كان البدء بالمفاوضات غير المباشرة لـ"تليين" مواقف الطرفين، وتحقيق إنجازات محددة أو على الأقل "أمل" في هذه الإنجازات يبنى عليه الانتقال إلى المفاوضات المباشرة. وظل الفلسطينيون يحاولون دون جدوى تحقيق شروطهم قبل إعطاء موافقتهم (المرجعية -بدء المفاوضات من النقطة التي توقفت عندها في ديسمبر 2008- الإطار الزمني) إلى أن صدر "القرار" الأميركي ببدء المفاوضات، ولم تملك السلطة الفلسطينية إلا القبول. والسؤال الآن: لماذا كل هذا الإصرار الأميركي على المفاوضات المباشرة على رغم وضوح التعنت الإسرائيلي والعجز الأميركي عن مواجهته؟ أما التعنت الإسرائيلي فهو ظاهر من التمسك المطلق بمواقف تتعارض كلية مع الحد الأدنى من المطالب الفلسطينية، وأما العجز الأميركي فيتضح من اعتراف الإدارة الأميركية بأن الفلسطينيين قد نفذوا ما هو مطلوب منهم، فالرئيس الأميركي السابق بوش نفسه يقول للرئيس محمود عباس في 2008/12/18 وفقاً للوثيقة: "لقد قمت بكل ما عليك. لا يستطيع أحد أن يوجه لكم اللوم. أنا قمت بما عليَّ وأنت قمت بما عليك، لكن الجانب الإسرائيلي سقط في دوامة مشاكله الداخلية، وتهرب من الاتفاق". وأوباما تراجع عن مواقفه، سواء كما عبر عنها في لقائه بالرئيس الفلسطيني في 28 مايو 2009، أو في خطابه بجامعة القاهرة بعد ذلك بأيام، وذلك على الأقل بخصوص وقف الاستيطان بما في ذلك النمو الطبيعي للمستوطنات. أما مبعوثه إلى الشرق الأوسط فقد كان وفقاً للوثيقة يقول في كل مرة يلتقي بالجانب الفلسطيني: "استمروا في تنفيذ التزاماتكم، فليس لديَّ ما أطلبه منكم. عملي الرئيس يركز على الإسرائيليين، إذ يتعين أن يدركوا أن عليهم وقف الاستيطان، بما في ذلك النمو الطبيعي، واستئناف المفاوضات من النقطة التي توقفت عندها في ديسمبر 2008، وعلى الدول العربية إيداع خطوات للتطبيع مع إسرائيل لدينا، وذلك لتحفيزها على القيام بالخطوات المطلوبة منها"، وحتى هذا المطلب الأخير تخلى عنه ميتشل لاحقاً، وبدأ يقول في أغسطس 2009: "لم نعد نريد أي خطوات من الدول العربية بالنسبة لإسرائيل، فنحن لم نتوصل إلى صفقة معهم حتى الآن، ولكن يبدو أننا لن نحصل على كل ما نريده". ثمة تفسيران محتملان لهذا الإصرار الأميركي على المفاوضات المباشرة على رغم الإخفاق في التمهيد لها. أما التفسير الأول فهو أن ثمة ضغوطاً إسرائيلية على الإدارة الأميركية يدعمها اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة من أجل إقرار إكراه الفلسطينيين على الدخول في مفاوضات مباشرة، ولأن لهذا اللوبي تأثيره -خاصة مع اقتراب استحقاقات انتخابية أميركية- فإن الإدارة الأميركية لا تستطيع أن تتجاهل ببساطة ضغوط ذلك اللوبي، ويقود هذا التفسير إلى سؤال آخر: لماذا الإصرار الإسرائيلي على المفاوضات المباشرة على رغم كل هذا التباعد في المواقف؟ لاشك أن دخول الفلسطينيين في هذه المفاوضات يوفر ولو حدّاً أدنى من شرعية زائفة للسياسة الإسرائيلية، فها هي تفعل بالفلسطينيين كل ما تفعله، ومع ذلك فإنهم يجلسون للتفاوض مع الحكومة الإسرائيلية، وبالتالي تتفادى هذه الحكومة مزيداً من الضغوط الدولية، بل لعل البعض في مرحلة ما يلقي كما هي العادة باللوم على الفلسطينيين في تأزم المفاوضات. ومن ناحية أخرى لعل الجانب الإسرائيلي يأمل بهذه الطريقة أن يمتد إكراه الطرف الفلسطيني على دخول المفاوضات إلى إكراهه على القبول بتنازلات جديدة، وفي كل الأحوال فإن لعبة استنزاف الوقت مستمرة حتى يستكمل المخطط الإسرائيلي في تهويد القدس وترسيخ الاستيطان في الضفة. أما التفسير الثاني فهو الأقل احتمالاً، وهو أن يكون في العودة إلى المفاوضات المباشرة إنجاز للإدارة الأميركية من وجهة نظرها يدعمها سواء في الداخل الأميركي أو في الساحة الدولية، إذ تستطيع هذه الإدارة أن تدعي تحقيق اختراق لواحد من أعقد الصراعات الإقليمية إن لم يكن أكثرها تعقيداً. ويقلل من قيمة هذا التفسير أن الإدارات الأميركية السابقة قد فعلت الشيء نفسه دون أن تتمكن من تحقيق أدنى إنجاز. أيّاً كان تفسير الإلحاح الأميركي والإسرائيلي على التفاوض المباشر الميت قبل أن يبدأ فإن المسؤولية تبقى على عاتقنا في تقوية الجانب الفلسطيني بتعزيز وحدته الوطنية أولاً، والدعم العربي لموقف فلسطيني يتسق والحقوق الفلسطينية، ولكن البدائل التي يتحدث عنها الفلسطينيون والعرب لا تبشر بأدنى خير في هذا الصدد.