يقاس النجاح في الحروب عادة بتحقيق الأهداف التي قامت من أجلها. وغداً، بخلاف ما اعتقده كثيرون، تنتهي الحرب الأميركية في العراق! وتتغير "عملية حرية العراق" التي قادتها الولايات المتحدة، ومعها حفنة من الدول الحليفة في أوروبا الجديدة، وسط معارضة أوروبا القديمة باستثناء التابع البريطاني. وهذه الحرب انتقدها، بعد سنوات من بدئها، أمين عام الأمم المتحدة السابق كوفي عنان الذي وصفها بأنها "غير شرعية". وغداً أيضاً سيُلقي أوباما، الذي عارض الحرب من بدايتها ورشح نفسه على وعد بإنهائها، خطاباً لن يكون خطاب نصر كاذب كما وعد بوش من على حاملة طائرات في مايو 2001 بأن المهمة قد أُنجزت وانتصرنا. بل سيكون خطاب أوباما، الذي لا نستبعد لدواعي الدراما أن يلقيه من بغداد نفسها، خطاباً سياسيّاً موجهاً للداخل وتحديداً للناخب الأميركي المثقل بالهموم، الذي تطارده البطالة ولا يرى ضوءاً في نهاية النفق، لإقناعه بأن الرئيس قد أوفى بوعده كقائد أعلى للقوات المسلحة الأميركية وسحب القوات المقاتلة، كما وعد بذلك قبل عام ونصف في زيارته الوحيدة للعراق، وقد نجح وحقق الوعود التي قطعها على نفسه. ولكن أوباما وفريق عمله لن يتحدثوا، على الأرجح، عن كثير من القضايا المعلقة التي تبقى بلا حل، من قبيل مشكلات الديمقراطية و"القاعدة" وإيران واختفاء توازن القوى المهم. وهنا يتناسى أوباما وفريق مستشاريه أن حرب العراق بالنسبة لكثير من الأميركيين أصبحت حرباً منسية، ولم تعد ذات تأثير في قرارهم الانتخابي كما كانت عليه في الانتخابات السابقة. وهي على الأصح تستدعي في أذهانهم تركة عهد بوش الذي هندس حرب العراق في عهده "المحافظون الجدد" لإسقاط نظام صدام في مارس 2003، وسميت "عملية حرية العراق" وقيل إنها شنت بسبب امتلاك صدام لبرامج وأسلحة دمار شامل، وكذلك علاقته مع تنظيم "القاعدة" الذي كانت القوات الأميركية قد غزت واحتلت أفغانستان بسببه وتخوض ضده حرباً طاحنة مستمرة إلى اليوم، ودُقت أجراس الخشية حينها من احتمال تزويد "القاعدة" بتلك الأسلحة. وفي مرحلة لاحقة أُضيف سبب ثالث للحرب وهو القضاء على الديكتاتورية التي يمثلها نظام صدام. ولم يتأخر السبب الرابع فأضيف أيضاً نشر الديمقراطية والقضاء على الطغاة وتطويع الحلفاء في المنطقة وترهيب الأعداء والخصوم في شرق أوسط جديد وكبير تحدثت عنه بلا مواربة كوندوليزا رايس إبان حرب إسرائيل على لبنان في صيف عام 2006، حين قالت إن الأمر "مخاض لولادة شرق أوسط جديد، وعليكم جميعاً أن تتحملوا ذلك المخاض". كما أن أحد منظري "المحافظين الجدد" بول وولفوفيتز تحدث بفخر قائلاً إن حرب العراق ستكون ذات مفعول كالدومينو، وستنشر الديمقراطية من دمشق إلى طهران، وسيكون العراق هو المثال والقدوة للتغيير والحرية والديمقراطية. والسؤال اليوم هو: ترى أين الآن هؤلاء "المحافظون الجدد" الذين يدفع من تبقوا منهم -على قلتهم وتخبطهم- من أمثال جون بولتون المندوب الأميركي في الأمم المتحدة، مرة أخرى نحو حرب ضد إيران، دون أن يتعلموا شيئاً من دروس العراق المميتة. لقد راهن عديدون على أن أميركا لن تنسحب من العراق. وكيف يمكن أن تنسحب من هناك بعد ما أنفقت 800 مليار دولار، وبعد أن خسرت 4420 قتيلاً من جنودها و32000 جريح وعشرات الآلاف من الجنود الذين هم بحاجة إلى رعاية صحية ونفسية وسط ارتفاع هائل لحالات الانتحار والطلاق والأزمات النفسية لهؤلاء الجنود لهول وصدمة التجربة المريرة لحرب دامت سبعة أعوام ونصف ولا تزال مستمرة وإن كان ذلك بوضع شعار وتسمية جديدة لأقل من خمسين ألفاً من القوات المتبقية ولقائد جديد هو الجنرال أوستن، وباسم جديد للعملية بدءاً من الأول من سبتمبر هو "عملية الفجر الجديد". أي فجر... وأي جديد؟ والعراق الذي فقد أكثر من مئة ألف من أبنائه، وترمل وتيتم ملايين من نسائه وأطفاله، وتشرد وتحول إلى لاجئين في الداخل والخارج مثلهم أربعة ملايين، لا يرى لا فجراً ولا جديداً، كما أن معظم أبنائه ما زالوا في معاناتهم اليومية وهم يفتقدون أبسط متطلبات وأساسيات الخدمات من عمل وأمن وماء وكهرباء وغيرها. لقد فقدوا الأمل، يومهم كغدهم كأمسهم. وهم يعيشون على واقع التفجيرات والمفخخات. لقد تحول العراق الدولة المحورية التي كانت تشكل توازناً مهمّاً للقوى في المنطقة يحتوي إيران ويُبقي غطاءً على الأوضاع على رغم وحشية نظام صدام، إلى نموذج لا يريده أبناؤه. فكيف يكون نموذجاً لنا؟ العراق ليس نموذجاً يُغري الآخرين لاستنساخه، ونحن نرى كم تخلف وغرق في حال تنخره الطائفية والمذهبية والعرقية والمناطقية، وتتحكم فيه القوى الإقليمية والتدخلات الخارجية. وبعد ستة أشهر من الانتخابات البرلمانية ما زال مشلولاً سياسيّاً وتعجز قواه السياسية الطائفية والعرقية عن تشكيل حكومة تنقذه وتخرجه من الدائرة المغلقة التي تنخره وتدمره، وسط خوف حقيقي بعد الانسحاب الأميركي من أن تعود دوامة العنف المجنونة التي قتلت خلال الشهرين الماضيين المئات. وفيما تؤكد واشنطن جاهزية القوات العراقية لتولي الأمن يؤكد رئيس هيئة الأركان العراقية الجنرال أبوبكر زيباري أن القوات العراقية لا تستطيع القيام بذلك حتى عام 2020، على رغم إنفاق أميركا لمليارات الدولارات على تسليح وتدريب وتأهيل القوات العراقية وتزويدها بطائرات "ف16" ودبابات "أبرامز" المتطورة. لقد تحولت حرب "حرية العراق"، التي يصفها البعض بالاحتلال، إلى فوضى ومحاصصة في استحضار للنموذج اللبناني. وحولت العراق إلى دولة من أكثر الدول فشلاً، وزادت المحسوبية والفساد معاناة المواطنين ليحول العراق العظيم إلى دولة لا تملك قرار نفسها وتستبيحها قوى الاحتلال وقوى الجوار و"القاعدة" وأخواتها. وتحول العراق إلى حاضن وجاذب ومدرب ومصدر لجميع التنظيمات المتطرفة. وبعد غد، في الأول من سبتمبر، ستتحول مهمة القوات الأميركية المتبقية الـ 49700 جندي من قوات مقاتلة إلى قوات إسناد وتدريب للقوات المسلحة العراقية، بهدف دعمها في مواجهة الإرهاب و"القاعدة" وحماية المصالح والسفارة والأميركيين المدنيين. وستُمنح وزارة الخارجية والسفير الجديد جيمس جيفري صلاحيات أوسع. وتبقى الأسئلة العالقة مطروحة عن مستقبل العراق والمنطقة المجهولين، وعن الاستحقاقات العديدة المتبقية، وعن دور الآخرين وخاصة طهران وواشنطن، وعن لعبة النفط والمصالح. وقبل هذا وذاك عن العلاقة المضطربة بين مكونات العراق، وعلاقاته مع جواره؟ وهل ستنسحب القوات الأميركية نهائيّاً في نهاية عام 2011؟ أم أن هناك ترتيبات جديدة واتفاقية أخرى يجري العمل عليها لجعل العراق قوة توازن؟ هل سيبقى الجميع بانتظار ذلك الفجر الموعود، أم أنه فجر كاذب؟!