الرؤية الاقتصادية التي يحملها "المشروع النهضوي العربي" ترتكز على "ضرورة التنمية المستقلة" والانحياز لها ولدور أساسي للدولة في تحقيق التنمية اختلافاً عن اقتصاد السوق المفتوح بلا حدود، وليس ضداً منه. وهذا الاقتصاد الأخير يقوم كما هو معروف على التجارة وليس التنمية، ويهمش دور الدولة ويحصره في التحفيز والمراقبة ويحرمها من الفاعلية والسيطرة. ابتداءً ينفي النص فرضيتين مغلوطتين عن مفهوم "التنمية المستقلة" تفاديّاً لسوء الفهم، الأولى "افتراض أن التنمية المستقلة تعني الاكتفاء الذاتي أو الانقطاع عن العالم"، والثانية "افتراض أن إدماج الاقتصادات النامية في السوق العالمي بالشكل المطلق الذي فرضته القوى الاقتصادية المهيمنة، يمكن أن يؤدي إلى تنمية حق". ومن المفهوم أن يتبنى "المشروع النهضوي" هذه الأطروحة خاصة في ضوء الخبرات والتجارب التنموية والاقتصادية التي عصفت بكثير من البلدان النامية والمتقدمة في حقبة ما بعد الحرب الباردة وتسيّد مفاهيم وأطروحات العولمة الاقتصادية. فثمة حزمة من الدروس القاسية تعلمها العالم من تجربة الأزمة الآسيوية الطاحنة التي أطاحت باقتصادات بعض دول آسيا في أواخر التسعينيات، ثم الأزمة المالية العالمية التي هزت أسس النظام المصرفي والتجاري المعولم خلال السنتين الماضيتين. وأول تلك الدروس إعادة الاعتبار لدور الدولة في تسيير ومراقبة المسار الاقتصادي العام وتوجيهه. وثانيها التيقن من أن إطلاق حرية السوق من دون ضوابط وبلا حدود يقود إلى مغامرات وأحياناً كوارث تكون تكلفتها عالية ومدمرة. وعلى هذه الخلفية يمكن القول إن المقاربة التي يقدمها "المشروع النهضوي" في المجال الاقتصادي تبدو متزنة ورصينة، خاصة مع تأكيد النص على أن "التنمية المستقلة" لا تعني بأي شكل من الأشكال الانقطاع عن العالم أو الدعوة إلى "الاكتفاء الذاتي" أو سواها من مثاليات غير ممكنة وغير عملية ولا مفيدة من ناحية اقتصادية. فالترابط الاقتصادي والتجاري والمالي الذي يشهده عالم اليوم المتعولم يجعل التفكير بالانقطاع (de-linkage)، وهو ما كان يدعو إليه الاقتصادي المصري المعروف سمير أمين، والاكتفاء الذاتي، نوعاً من الانتحار الذاتي. وما يدعو إليه المشروع النهضوي هو استقلالية التنمية ويعرفها بكونها "توفير أكبر قدر من حرية الفعل للإرادة الوطنية المستندة إلى تأييد شعبي حقيقي في مواجهة عوامل الضغط التي تفرزها آليات الرأسمالية، وفي مواجهة القيود التي تفرضها المؤسسات الراعية والحارسة للنظام الرأسمالي العالمي، ومن ثم القدرة على التعامل مع الأوضاع الخارجية بما يصون المصالح الوطنية". يتحدث النص عن خمسة مبادئ ناظمة للتنمية الاقتصادية وسبع ركائز ينبغي أن تقوم عليها مثل هذه التنمية. والمبادئ الخمسة هي: "تحرير القرار التنموي القُطري والقومي من السيطرة الأجنبية"، و"اعتماد مفهوم واسع للرفاه الإنساني كغاية تنموية"، و"(اعتبار) المعرفة مصدراً أساسيّاً للقيمة في العالم المعاصر"، و"إنشاء نسق مؤسسي فعال موجه نحو التكامل القومي"، و"الانفتاح الإيجابي على العالم المعاصر". أما الركائز فهي "تسليح الاقتصاد بأكبر قوة من الدفع الذاتي وتمكينه من مواجهة الصدمات الخارجية"، و"الاعتماد على الذات ماديّاً وبشريّاً"، و"الدولة التنموية والتخطيط الشامل"، و"عدالة توزيع الدخل والثروة"، و"الديمقراطية التشاركية ومكافحة الفساد"، و"الانفتاح الإيجابي وضبط العلاقات الاقتصادية مع الخارج"، و"التكامل الاقتصادي العربي والتعاون مع الجنوب". وهناك تفاصيل يوردها النص واستطرادات تحت تلك العناوين تستدعي بعض الملاحظات النقدية. وأولاها أن المبادئ والمرتكزات والطموحات الكبيرة التي تتضمنها الرؤية الاقتصادية، والتنمية المستقلة، التي يدعو إليها المشروع النهضوي تفتقد الآليات وتفتقد تصورات عملية وحقيقية حول التطبيق. وسؤال "كيف" و"من أين نبدأ" يلح على الذهن لدى قراءة معظم ما يتمناه النص ويسطره. هناك فجوة يُراد تجسيرها بين الواقع المتخلف والمتدهور الراهن وما يدعو إليه أي حل مطروح -أو بلغة حالمة، كيف نعبر الجسر؟ وثانية تلك الملاحظات متعلقة بالتركيز المتكرر على ضرورة تكامل الاقتصادات العربية. ونعلم جميعاً أن حجم التجارة البينية العربية بالكاد يبلغ 10 في المئة بينما حجم التجارة الأكبر يقوم بين الدول العربية منفردة والعالم الخارجي، أوروبا والولايات المتحدة وآسيا. وخلف هذه النسب والأحجام هناك أسباب واقعية لا تغيرها الرغبة القومية بتكثيف التجارة والاقتصاد العربيين. فالأسواق والاقتصادات العربية لا توفر لبعضها بعضاً ما توفره لها الأسواق الخارجية، وهي تنتج سلعاً متشابهة، كما ليست لها القدرة على استيعاب اقتصادات لا تختلف عنها كثيراً. هذا فضلا عن الحساسيات السياسية وغياب القرار والإرادة العليا. ولكن في المجمل العام لا تستطيع الاقتصادات المتخلفة أن تتكامل مع بعضها بعضاً لأنها تفاقم من تخلفها، بل تحتاج إلى اقتصادات متقدمة كي تساعدها على النهوض. وهذا ينطبق أيضاً على الدعوة، أو الركيزة، التي يتبناها النص وتؤكد على ضرورة التعاون والتكامل مع دول الجنوب. والسؤال الواقعي هنا هو ما الذي ستستفيده الدول العربية، منفردة أو مجتمعة، من التعاون مع اقتصادات متردية أو تفتقد الحيوية، والسؤال نفسه ستطرحه دول الجنوب أيضاً، إذ ماذا ستستفيد (ما عدا في مجال النفط) من الانخراط في تكامل اقتصادي مع الدول العربية؟ والملاحظة الثالثة: هناك غياب ملحوظ وعدم تركيز على معضلتين تواجهان أية عملية تنمية في المنطقة العربية وهما نزيف الأدمغة وتفشي الأمية. صحيح أن النص يفرد إحدى ركائز التنمية المستقلة للتركيز على رأس المال البشري، ولكن مع ذلك لا يشعر المرء بإلحاحية هاتين المعضلتين في النص. هناك حديث واضح عن التعليم الأساسي والجامعي، وإشارة إلى أهمية "دفع أنشطة البحوث والتطوير"، ولكن ذلك لا يكفي. وحتى الإشارة الخجولة لتعزيز البحث والتطوير تمر سريعاً، في حين نعلم أن نسب الإنفاق على البحث العلمي في البلدان العربية مخجلة مقارنة ببقية دول العالم، فما تنفقه إسرائيل وحدها في هذا المجال يزيد على ما تنفقه كل الدول العربية مجتمعة. وبالنسبة لنزيف الأدمغة فالواقع على الأرض يقول إن هناك هجرات دائمة للكفاءات العلمية العربية نحو الخارج بسبب الظروف الطاردة. وجزء كبير من حصيلة مخرجات العملية التعليمية يتم تقديمه على طبق من ذهب للدول الغربية الجاذبة لتلك الكفاءات. وأما الأمية التي تزيد عن نسبة 40 في المئة في بعض البلدان الكبيرة (مصر والمغرب والسودان مثلاً) فهي عائق مدمر لأي عملية تنموية، سواء اعتمدت التنمية المستقلة أو السوق المفتوح. ورابعة تلك الملاحظات متعلقة بغياب أي اهتمام بالمسألة الديموغرافية العربية وعلاقتها بالتنمية. فنحن نعلم أن الهرم الديموغرافي في معظم البلدان العربية مشوه من ناحية تفاقم نسبة الإعالة، التي تشير إلى عدد من لا يعملون إلى عدد من يعملون. فنسبة من هم دون سن العمل، ومن خرجوا من سوق العمل بسبب السن، كبيرة جدّاً. وفي ظل واقع يقول إن سوق العمل يحتاج إلى توفير أكثر من مئة مليون فرصة عمل للشباب العربي في السنوات القادمة، فلنا أن نتخيل الواقع المحبط والمخيف لملايين العاطلين عن العمل. يحدث هذا كله في غياب سياسة سكانية ترشد من عدد المواليد والقذف بهم في سوق مشبعة أصلا ولا توفر أي أمل لهم بالعمل.