سجال حول سياسات الأمن والهجرة... والبوصلة السياسية تشير إلى "اليسار" استمرار السجال والنقد المتبادل في فرنسا بسبب تهجير الغجر وسياسات الهجرة والمدينة، والآفاق التي يفتحها المؤتمر الصيفي للحزب الاشتراكي المعارض، وتفاوت زخم النقاش في أميركا وفرنسا حول المهمة الأفغانية، موضوعات ثلاثة استقطبت اهتمام الصحافة الفرنسية. سياسة الهجرة والمدينة بعد حملة "اليسار" والمنظمات الحقوقية على ساركوزي بسبب التدابير المتعلقة بتسفير الغجر الرومان وقضايا وسياسات الأمن والمدينة والهجرة بصفة عامة، أطلق الإعلام اليميني المقرب من سيد الأليزيه حملة مضادة، بهدف سحب البساط من تحت المعارضة وصحافتها الناقدة التي رددت أصداء خطابتها حتى منظمات دولية وجهات حقوقية عديدة. في صحيفة لوفيغارو كتب إيفان ريوفول مقالاً حاداً تهجم فيه على إعلام "اليسار" وكذلك على رئيس الوزراء الأسبق "دومينيك دوفيلبان"، مؤكداً أن الهدف الحقيقي من وراء محاولات توظيف قضية الغجر للتشكيك في سياسات الحكومة ومدى التزامها بالمعايير المطلوبة في مجال حقوق الإنسان هو التغطية على ضعف "اليسار" وفشله السياسي المزمن بعد أن تجاوزته الحقائق والوقائع، ولذلك لم يبق بيده سوى لغة الإساءة والعبارات النابية التي يطلقها رموز من "اليسار"، وإعلاميون محسوبون عليه. ومع ذلك يقول الكاتب إنه يتعين عدم تحويل الغجر إلى كباش فداء لفشل سياسات الهجرة والاندماج. وإلى جانب بعض رموز "اليسار" خرج دوفيلبان أيضاً بمقال في صحيفة لوموند يوم الاثنين الماضي -يقول الكاتب- محرضاً "كل فرنسية، وكل فرنسي، على التصرف بوعي، مهما كان عمره أو ظروفه أو مكان تواجده، في باريس أو الضواحي، لكي يعبر بطريقته الخاصة عن رفضه القاطع لهذه التوجهات غير المقبولة"، التي تمثلها في نظره السياسات الأمنية التي تم إطلاقها منذ خطاب ساركوزي في غرينوبل بتاريخ 30 يوليو الماضي، الذي يصفه دوفيلبان بأنه "وصمة عار". وفي سياق النقد ذاته رصد أيضاً ميشل غوييو في افتتاحية "لومانيتيه" ملامح انقسام في صفوف اليمين الفرنسي تجاه قضية ترحيل الغجر، وغيرها من سياسات الهجرة والأمن، واعتبر الكاتب أن حملة التخويف من الأجانب الدائرة منذ عدة أسابيع أدت إلى ظهور شرخ في صفوف اليمين، حيث أصبحت شرائح واسعة من أنصاره تراجع مواقفها وتعيد التفكير في تأييدها السابق لساركوزي وسياساته، وخاصة بعدما تكشفت هذه السياسات عن عمليات طرد الغجر، والخلط غير المناسب بين قضايا الانحراف والهجرة، بل حين وصل الأمر إلى تصنيف الفرنسيين على أساس الأصول، وسوى ذلك مما يتنافى مع قيم الجمهورية ومبادئها في الحرية، والمساواة، والإخاء. ويذهب الكاتب إلى أن السياسات المحمومة الراهنة ربما تهدف إلى دمج الجمهور الناخب المؤيد لليمين الصلب التقليدي مع جمهور اليمين المتطرف، استعداداً لرئاسيات 2012، وهذا قد يكون هو أقرب التفسيرات. طموحات الاشتراكيين استقطبت أجندة المؤتمر الصيفي التقليدي للحزب الاشتراكي في مدينة لاروشيل اهتمام معظم كُتاب افتتاحيات الصحف الفرنسية، وذلك نظراً لكون الحزب هو أكبر أحزاب المعارضة، زيادة على انقلاب المزاج العام الفرنسي الآن ضد اليمين الساركوزي الحاكم. الكاتب "بول كينو" نشر في صحيفة ليبراسيون افتتاحية بعنوان "ثقة" معتبراً أن هذه العبارة تلخص في كلمة واحدة الأجواء العامة التي ينعقد فيها المؤتمر الصيفي للحزب، ولا يخفى على أي مراقب اتجاه بوصلة المزاج العام الآن إلى جهة "اليسار"، ووجود رغبة قوية في التغيير والتناوب على السلطة في رئاسيات 2012. ولكن مع ذلك ينبغي أيضاً عدم إغفال حقيقة أخرى ماثلة، وهي أن الثقة ما تزال مفقودة بين الحزب الاشتراكي والفرنسيين، الذين تراود الشكوك شرائح واسعة منهم تجاه قدرة الحزب، لو كان الآن في السلطة، على تقديم أداء أكثر إقناعاً مما تقدمه الأغلبية الحالية الحاكمة. ومع أن مصاعب ساركوزي الراهنة تفتح حزمة فرص على الاشتراكيين إلا أن ذلك يقتضي أولاً استعادة المصداقية والقدرة على الإقناع بأن لديهم مشروعاً بديلاً قويّاً. وقد تكون زعيمة الحزب الاشتراكي الحالية مارتين أوبيري محقة، حين اختارت أن تفتح على ساركوزي جبهة الحديث عن القيم تحديداً، مستغلة في ذلك الاستياء الواسع من السياسة الأمنية الراهنة. ولكن ما زال ينقصها إقناع الفرنسيين بأن لديها هي أيضاً سياسات بديلة لكافة القضايا والمشكلات المهمة. هذا عن ضرورة استعادة الاشتراكيين الثقة السياسية الخارجية لدى الجمهور، أما الثقة الداخلية التي ينبغي استعادتها هي أيضاً فتتعلق بترتيب أوراقهم، لاستعادة الثقة، أو بالأحرى تجاوز حالة اللاثقة، بين أبرز زعامتهم الحزبية، إذ كيف يستطيعون استعادة ثقة الفرنسيين إذا كانوا عاجزين أصلاً عن توطيد الثقة فيما بين "الرفاق" أنفسهم ممثلين في زعمائهم أوبيري ورويال وهولاند، وطبعاً بعض بيادق "دومينيك ستروس كان" (مدير صندوق النقد الدولي). ولاشك أن مؤتمر لاروشيل يعتبر فرصة ثمينة لإعادة رص الصفوف، وهنا بالذات على قادة الحزب أن يعرفوا أن ساركوزي ليس من السذاجة بحيث تنطلي عليه تلك الابتسامات وصور الوحدة الحزبية القادمة من لاروشيل، لأنه يعرف أنها تخفي تحت السطح تنافساً محتدماً لن يتأخر عن الانفجار مع تنظيم التصفيات الأولية على مستوى الحزب لتحديد مرشحه المقبل للانتخابات الرئاسية لسنة 2012. وغير بعيد من هذا الطرح ركز فرانسوا مارتين في افتتاحية لـ"ميدي ليبر" على مسألة استعادة الثقة تحديداً التي تعد اليوم هي حجر الزاوية في مشروع الاشتراكيين وفرصهم للرئاسيات المقبلة، إذ عليهم تقديم مرشح أو مرشحة قادر على إقناع الفرنسيين بأن لديه مشروعاً رئاسياً ذا مصداقية، وأفكاراً جديدة، وقيماً راسخة. وإذا توافر هذا المرشح فمن حق الاشتراكيين الاستمرار في حلمهم بإحداث تناوب على السلطة في قصر الأليزيه، ولكن بشرط ألا تنقلب روح التوافق التي أطلقوها الآن للرأي العام، إلى صراع داخلي محتدم بعد أشهر عندما تنطلق التصفيات الأولية لاختيار مرشح الحزب. فرنسا والمهمة الأفغانية قارنت افتتاحية صحيفة لوموند المقاربة الأميركية تجاه أفغانستان بما فتحته من نقاش واسع في واشنطن تجاه استحقاقات المهمة المعقدة وبين عدم إثارة الالتزام الفرنسي في بلاد الأفغان القدر نفسه من الاهتمام على المستويين السياسي والشعبي. وفي التفاصيل قالت الصحيفة إن في مقدورنا أن ننتقد خيارات أوباما، ولكن لابد أن نعترف له في كل الأحوال بالنجاح في فتح عملية حوار وتفكير واسعة حول الاستراتيجية المتبعة في أفغانستان، وباكستان، وفي مواجهة "القاعدة". وقد كان الرئيس الأميركي واضحاً وقادراً على إتباع الأقوال بالأفعال، حين نفذ الانسحاب من العراق، وأعلن للأفغان بأن أميركا لا تتطلع لاحتلال بلادهم، بل ستبدأ الانسحاب في يوليو من العام المقبل. وفي موازاة مع ذلك لم يتردد في مد جنرالاته على الأرض بالتعزيزات التي طلبوها لكي يكون في مقدورهم شن عمليات مؤثرة ضد التمرد، بهدف إضعاف "طالبان" بالقدر الكافي قبل التفكير في الدخول في أية مفاوضات محتملة مع بعض أجنحتها أو قادتها. وعلى رغم كل هذا -تقول لوموند- فإن رهان أوباما يبقى مجازفاً ومحفوفاً بالمفارقات، لأن نجاحه ليس مضموناً أبداً. ولكن كيف يكون الحال في باريس، حيث إن فرنسا ما زالت تتهيب النظر في الحرب وجهاً لوجه أو حتى فتح نقاش حولها، والرئيس هو من يقرر، والبرلمان يلوذ بالصمت، والشعب يشيح بنظره إلى مكان آخر بعيد. وفي افتتاحية ثانية كتبها ميشل لبيناي لـ"باري نورماندي" نجد أيضاً مثل هذا الطرح، مع تنبيه خاص على حيوية النقاش الدائر في أميركا حول تبعات وآفاق الالتزام في أفغانستان، مقابل خمول الحديث عن هذا الموضوع في فرنسا، التي لا يكاد هذا الملف يُفتح أمام النواب فيها، على عكس تدخل الكونجرس الأميركي في كل شاردة وواردة كلما تعلق الأمر بالمهمة الأفغانية. إعداد: حسن ولد المختار