"الأمة العظيمة تستحق فناً عظيماً"... هذا هو الشعار الذي ترفعه مؤسسة الوقف الوطني للفنون في الولايات المتحدة، وهو شعار يستدعي التمحيص رغم كل ما يتضمنه من دعوة إلى العظمة، فالشعار يحمل في ثناياه خوفاً مبطناً من مستقبل قاتم تخضع فيه الفنون لسلطة السوق وشروطه، ما يحتم تدخل الحكومة، أو المؤسسات الخاصة الراعية للفن مثل مؤسسات "الوقف الوطني" لتفادي ما يمكن تصوره في هذه الحالة من اكتساح برامج الواقع والإعلانات الرخيصة وباقي وسائل الترفيه المبالغ فيها لمشهدنا الفني، وهي الأمور التي لا تدخل بحال من الأحوال في إطار الفن الراقي، لكن التعريف ليس هو القضية هنا، بقدر ما أن المسألة تتعلق بتعريف الاتجاهات والأصوات التي تهيمن على الإعلام. أليست تلك الصورة والأصوات التي تطالعنا يومياً وتحظى بالشهرة والشعبية هي في الحقيقة تعبر عن أنفسنا مادام حكم الأغلبية، بما في ذلك الشعبية والإقبال الجماهيري، جزءا أصيلا من الديمقراطية التي نؤمن بها؟ فالفن الذي نصفه بالراقي يقتصر على اهتمام فئة صغيرة متقوقعة على نفسها، وهو بهذا المعنى لا يمارس دوره الديمقراطي المتمثل في الإرشاد والتنوير ليبقى السؤال الأساسي: ألا يمكن للفن على غرار الطعام الذي نميز فيه بين الوجبات السريعة المضرة والوجبات المغذية الصحية مع معرفتنا للنتائج المترتبة على كل منهما أن يفسح المجال للمجتمع كي يقوم باختياراته ويستهلك ما يريد؟ وفي هذا الإطار ألا يصبح دور المؤسسات ومنها "الوقف الوطني" معاكساً لهذه الاختيارات من خلال تعزيز الأعمال الفنية المفيدة لكنها عاجزة عن البقاء في السوق؟ وإذا كانت عبارتا "الأمة العظيمة" و"الفن العظيم" الواردتان في الشعار تمثل تقييماً مرحباً به، فماذا إذن عن فعل "استحق" الذي يجمع بينهما؟ هل هو التوصيف الصحيح الذي يعبر عن واقع الحال؟ أم أنه ينطوي على نوع من الاستحقاق السلبي بحيث كل أمة عظيمة تستحق فناً عظمياً كنوع من المكافأة، ومهما يكن عليه الحال يشير الواقع الذي نعيشه أن الفن العظيم لا يندرج ضمن قائمة الشروط التي تحدد الأمة العظيمة، فالسياسيون لا يكفون عن تذكيرنا بمصادر العظمة التي يتعين البحث عنها دون أن يكون الفن جزءاً منها، فهل نقول إنه بدلا من الشرط الفني للعظمة هناك على الأقل "حاجة" ما للفن للوصول إلى العظمة كأمة؟ فنحن عندما نتحدث عن بلد عظيم نحصي العديد من العناصر منها العسكري والاقتصادي والتكنولوجي دون أن يدخل الفن في الصورة، ولو كان الفن أكثر ارتباطاً بالعظمة في حياتنا الواقعية لأمكن رصد العظمة في وسائل التعبير المختلفة وطرق توزيعها، لكن في حال نجحنا في إقامة العلاقة بين الأمة العظيمة والفن، هل يساعدنا ذلك في تحديد معنى الفن الراقي؟ ربما يستمد الفن رقيه عند البعض من الوظيفة التي يتولاها والمتمثلة في كونه مصدراً للمعرفة ومنارة لتهذيب المشاعر وتطوير ملكة التفكير النقدي، وإيقاظ أفضل ما يوجد بدواخلنا، غير أن تعريف الفن الراقي لا يقتصر على الأعمال الفنية المعروضة في المتاحف المنعزلة والقاعات التي لا يرتادها أحد، بل يمتد إلى الأشياء النفعية الموجودة في الحياة اليومية، وتمنحنا فرصة التعرف إلى كل ما هو جميل ومتناغم ورمزي، والمقدم بطريقة حرفية. لكن الاقتصاد الذي يشجع على الاستهلاك يفشل عندما يتعلق الأمر بالجوانب البيئية والروحية، وهنا يمكن للفنانين القيام بدورهم كمتعهدين للحقائق الكونية حتى لو بقيت هوياتهم مبهمة وغير معروفة، ولن يكون ضمن هذا المعنى للفن أي قيمة للتوجهات الشخصية والذاتية لفنان، أو مدى التزامه السياسي وتماشيه مع التيارات الشعبية وغيرها، وفي خضم هذا الصراع بين تلبية الحاجيات الروحية وحماية الحقائق الكونية وبين الطابع الاستهلاكي للاقتصاد تنبثق فرادة الفن وقيمته الحقيقية، وهنا نرجع إلى سؤال إقامة مؤسسة ترعى الفنون، إذ المشكلة ليست في مدى الحاجة إليها في واقعنا الاستهلاكي، بل في الرؤية التي تتبناها تلك المؤسسة لدور الفن ومفهومه؟ فالقوانين عندما تسطرها المؤسسات الراعية للفن لا توضع لمنع حصول الأمور التي لا تحصل أصلاً، أو دفع الناس للقيام بأشياء يقومون بها دون تدخل، بل هي تأتي انعكاساً للأخطاء التي نقوم بها ورغبة في عدم تكرارها مرة أخرى، لذا غالباً ما تكون البرامج الحكومية التي تهدف إلى حماية الفن، أو غيرها من الأهداف الاجتماعية والاقتصادية بمثابة إعلان فشلنا الذاتي كمجتمع في حكم أنفسنا وتنظيم أمورنا، ما ينتج عنه قوانين تقلص خياراتنا ومغامرة الوقوع في الخطأ التي تولد لنا الفن، فالمحاولات المتكررة للتميز والاختيارات غير المنتظمة والعشوائية أحيانا هي ما يدفع المجتمع إلى التجريب والوصول إلى طريقه في النهائية، وأثناء الرحلة الطويلة والشاقة ينبثق الفن الراقي، في التوجيه المؤسسي الذي يصر عليه البعض وبين الطابع الاستهلاكي للاقتصاد الرأسمالي يعثر الفنانون دائما على طرق مبتكرة للتعبير تتجاوز المنفعة والفائدة الفورية للبحث المستمر عن القيم بصرف النظر عن موقعها في السوق، فالمسألة ليست في تدخل المؤسسات في رعاية الفن، ولا حتى البيئة الاستهلاكية التي يحفزها الاقتصاد، بل في نوعية الفن المطروح بين تهافته وتفاهته من جهة وعمقه واستجابته لاحتياجات مجتمعية حقيقية من جهة أخرى، ذلك أن العامل المحدد في تعريف الفن وعلاقته بالأمة العظيمة هو ما عبرت عنه مؤسسة الوقف الوطني للعلوم الإنسانية: "لأن الديمقراطية تستدعي الحكمة". ديفيد أرزومان كاتب ومؤلف موسيقي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"