ثمة مسائل اليوم لها القدرة على خلق توافق آراء واسع حول الشؤون الدولية، مثل الاتفاق على إعادة بناء النظام الجيوبوليتيكي العالمي. فيكاد الجميع يتفقون الآن -ولو على مستوى الخطابية- على أن التركيب الحالي لمجلس الأمن الدولي لم يعد ملائماً لعالمنا الحالي، كما أن منبر مجموعة الثماني الكبرى لا يتسع لكبرى وأهم الاقتصادات في عالم اليوم. وعليه فقد ساد الاعتقاد بضرورة انضمام لاعبين جدد لهذه التشكيلات الدولية. ولكن لا يزال مجهولاً بعد ما إذا كانت إعادة تشكيل هذه الهيئات الدولية بما يحقق مستوى تمثيل أفضل للدول وتوزيع أكثر تناسباً للسلطة فيها، سوف تتمخض عن نظام دولي أفضل مما هو قائم الآن. وخلال نصف القرن الماضي تم تضمين حزمة من المبادئ العامة من بينها: الدفاع الجماعي الدولي عن الديمقراطية وقيم الحريات، والحد من خطر الانتشار النووي، وتحرير التجارة العالمية، ونظام العدالة الجنائية الدولي، وحماية البيئة، واحترام حقوق الإنسان -بما فيها حقوق العمل والحقوق الدينية والثقافية والعرقية وحقوق النوع وكذلك حقوق المواطنين الأصليين- مجموعة الاتفاقيات والمعاهدات الدولية التي أبرمت خلال العقود الماضية. بيد أن تنفيذ شبكة المبادئ هذه كان مؤلماً وبطيئاً في معظم الأحيان، ولم يحرز فيه تقدم عام يذكر، مع تعرضه للكثير من الانتكاسات المؤسفة للبعض. واليوم ونتيجة لتزايد احتمال انضمام دول جديدة مثل البرازيل والصين والهند وجنوب أفريقيا إلى عملية اتخاذ القرار في المؤسسات الدولية القيادية المذكورة، بات يهدد بتقويض مبادئ هذه المؤسسات وممارستها في آن. ذلك أن مجموعة الدول الجديدة المتوقع انضمامها لتلك المؤسسات، لا تتسم بضعف مساندتها للمبدأ القائل بضرورة وجود نظام دولي قوي يحكم مسائل حقوق الإنسان والديمقراطية والحد من خطر الانتشار النووي، وتحرير التجارة العالمية، وحماية البيئة، والعدل الجنائي الدولي والصحة العالمية فحسب، إنما هناك من بينها من يعارض الفكرة نفسها صراحةً وبدرجات متفاوتة لهذه المعارضة. ومن يعتقد خلاف ذلك فعليه أن ينظر إلى مواقف هذه الدول من مسألة حفز الديمقراطية وقيم احترام حقوق الإنسان عالمياً. فعلى سبيل المثال تتسم كل من الهند والبرازيل وجنوب أفريقيا بكونها نظماً ديمقراطية في الأساس وتعرف بتطبيقها واحترامها لقيم الحريات داخل حدودها. ولكن حين يتعلق الأمر بنشر قيم الحريات وحقوق الإنسان خارجها وعلى النطاق العالمي كله، فإننا بالكاد نلحظ أي فارق بينها ودولة شمولية معادية لهذه المبادئ من أساسها. كما تتلازم مرونة الدول المذكورة نفسها في المسائل الدولية "الناعمة" بتخندقها معاً في معارضتها القوية المتعصبة لأي جهود دولية ترمي للاتفاق حول المسائل الدولية "الخشنة" مثل الاتفاق بشأن الحد من خطر الانتشار النووي. فباستثناء جنوب أفريقيا التي تخلت طواعية عن أسلحتها النووية التي طورتها سراً في عهد نظام الفصل العنصري، تبدي البرازيل والهند والصين معارضة موحدة قوية للنظام العالمي الذي أنشأته معاهدة حظر الانتشار النووي في عام 1968. وبما أن هذا هو سلوك القوى الدولية الجديدة الصاعدة إزاء المسائل الدولية، فإن من الممكن القول إنها لا تختلف كثيراً عن القوى التقليدية الراسخة، وفي ذلك السلوك أقوى دليل على عدم جدتها في المسرح الدولي. بيد أن الفارق الرئيسي بينها والقوى الدولية التقليدية، هو أنها لا تتعرض للضغوط القوية نفسها التي تتعرض لها القوى التقليدية من قبل منظمات المجتمع المدني. وفي حين يبدو خطاب وممارسة القوى الصاعدة بذات الشرعية التي يتسم بها خطاب وممارسة القوى التقليدية، فإن الحقيقة هي وجود تناقضات ذاتية عديدة في مواقف وسلوكيات ما يسمى بالقوى الصاعدة. فمن ناحية تنظر هذه الدول إلى نفسها على أنها ممثلة للدول النامية، بينما هي تحقق مكانتها الدولية من حقيقة تحولها إلى قوى اقتصادية وعسكرية وجيوسياسية، بل حتى إلى قوى أيديولوجية كبرى. ولا يفرق هذا الاختلاف بينها وبقية الدول النامية فحسب، بل يؤهلها لأن تتصدى لمهمة الدفاع عن جوانب معينة من القيم العالمية على أقل تقدير، وهو ما لا تفعله! وعلى أية حال، فإن النقاش الدائر الآن بشأن ما إذا كان يتعين انضمام الدول الصاعدة هذه إلى النظام الجيوبوليتيكي العالمي، يؤكد مدى الصعود الاقتصادي الذي حققته الدول المذكورة وما يترتب عليه من عواقب جيوسياسية. بيد أن الاهتمام لم يعط بذات القدر لحقيقة أن الدول الصاعدة لا تزال خفيفة الوزن في الجانبين الدبلوماسي والسياسي. وهذا يدفعنا إلى القول بأن منح تلك الدول دوراً أكبر في الساحة الدولية ومؤسساتها القائدة، من شأنه إضعاف الاتجاه الهادف إلى تعزيز نظام تعددي دولي أكثر قوة وفعالية، وتمكين النظام القانوني الدولي من ترسيخ الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان وحظر الانتشار النووي وحماية البيئة. وقبل إدارة حوار جدي داخل الدول الصاعدة المذكورة -الصين والبرازيل والهند وجنوب أفريقيا- فيما يتعلق بمدى التزام مجتمعاتها بقيم الديمقراطية والحرية، وممارستها عملياً داخل تلك المجتمعات، فربما لا يكون من سداد الفكر ومعقوليته منح الدول هذه حق العضوية الكاملة في مؤسسات المجتمع الدولي. وقبل الحصول على هذا الحق، ينبغي للدول المذكورة أن تنظر جيداً فيما إذا كانت على استعداد لأن تنفق من خزاناتها العامة وتقتطع جزءاً من عائدات إجمالي ناتجها المحلي لتمويل البرامج الدولية ذات الصلة بالنظام العالمي -مثل قضايا حماية البيئة والتغير المناخي، والدفاع الجماعي الدولي عن الديمقراطية وقيم حقوق الإنسان..إلى آخرها-. فليست عضوية المؤسسات الدولية التي تتطلع الدول للانضمام إليها مجانية وبلا ثمن. وبهذه المناسبة، فلنذكر مواقف هذه الدول وتعنتها في مؤتمر قمة كوبنهاجن الأخير الذي عقد بشأن التصدي العالمي لخطر التغير المناخي، علماً بأن تلك المواقف كانت تتمسك بالتزام الدول الصناعية الكبرى بأن يكون لها نصيب الأسد من تمويل برامج الحد من خطر التغير المناخي، وكذلك أن يكون لها النصيب الأكبر من الحد من انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون. وفي المقابل، فإنه يحق للقوى التقليدية الكبرى أن تقرر ما إذا كانت ستقبل عضوية الدول الصاعدة في المؤسسات الدولية مجاناً ودون ثمن تدفعه لهذه العضوية. جورج جي. كاستانيدا وزير خارجية المكسيك السابق 2000-2003 وأستاذ بجامعة نيويورك ينشر بترتيب خاص مع خدمة "إم. سي. تي. إنترناشيونال"