في الوقت الذي تبحث الولايات المتحدة عن استراتيجية للخروج من أفغانستان، متعهدة بالبدء في خفض قواتها بحلول العام المقبل وطي صفحة الحرب هناك، شرعت الهند من ناحيتها في استكشاف الخيارات المطروحة أمامها للحفاظ على مصالحها في أفغانستان، واستمرار نفوذها في منطقة قريبة منها. وضمن هذا الإطار، سعت الهند للتواصل مع إيران وروسيا للتوافق حول استراتيجية موحدة حول أفغانستان، وذلك قبل انسحاب القوات الغربية وانكشاف البلاد أمام قوى معادية قد لا تعمل على تقويض المصالح الهندية، لذا جاءت الزيارة التي قامت بها وكيلة وزارة الخارجية الهندية السيدة "نيروباما راؤ" إلى روسيا خلال الشهر الجاري، للتباحث مع نظرائها الروس حول خطة موحدة تجاه أفغانستان تلامس الانشغالات الأساسية للبلدين، وتمنع استغلال الفراغ الذي قد ينشأ بعد مغادرة القوات الأميركية لأفغانستان من قبل "طالبان"، وفي نفس الإطار أيضاً يمكن قراءة الزيارة الأخيرة، التي قام بها وكيل وزارة الخارجية الإيراني، إلى نيودلهي لإجراء مباحثات مع المسؤولين في الهند حول مستقبل أفغانستان بعد خروج القوات الدولية، حيث اتفق الطرفان معاً على ضرورة استمرار حكومة كرزاي الحالية في قيادة البلاد والإشراف على خطط التنمية وإعادة الإعمار طبقاً للدستور الذي وافق عليه الشعب. ويبدو أن النقاشات الجارية حالياً بين الأطراف الثلاثة، الهند وروسيا وإيران، تندرج في سياق رغبة البلدان الثلاثة في إحياء التحالف الشمالي الذي قاده الزعيم أحمد شاه مسعود، من 1996 إلى غاية تاريخ اغتياله في العام 2001، فعندما دخلت "طالبان" العاصمة الأفغانية، كابول، في العام 1996 وسيطرت على السلطة بدعم باكستاني، التفت مجموعة من المجاهدين حول قيادة شاه مسعود لمحاربة "طالبان"، وضم التحالف عناصر من الطاجيك والهزارة والأوزبك، فضلاً عن التركمان. وكان التحالف الجهة الوحيد في أفغانستان التي حاربت "طالبان" ودخلت معها في صراع طويل لم يتنه إلا بمقتل شاه مسعود نفسه بعد محاولات متعدده في السابق نجى منه، لكن بعد أشهر قليلة من اغتيال زعيم التحالف الشمالي على أيدي عناصر تابعة لتنظيم "القاعدة" في 2001 تمت الإطاحة بهذه الأخيرة بعد تدخل الأميركي الذي جاء رداً على هجمات الحادي عشر من سبتمبر التي تورطت فيها "القاعدة"، ومعروف علاقة هذه الأخيرة بنظام "الملا عمر" في كابول المتحالف معها والمؤيد لها. واليوم وبعد مرور عقود على نشوء التحالف الشمالي، تعود الهند مرة أخرى لعقد مباحثات مع روسيا وإيران حول صياغة استراتيجية جديدة لمعالجة الوضع الأفغاني بعد انسحاب القوات الأميركية. فرغم الحذر الذي تبديه روسيا في التعامل مع أفغانستان بالنظر إلى التجربة المريرة التي عاشتها هناك، بحيث اكتفت بالحصول على معلومات من أطراف أخرى تزودها بها دورياً، فإن المغادرة الوشيكة لقوات التحالف، والأخطار المترتبة على الفراغ الأمني الحاصل بعدئذ يدفعها إلى تغيير موقفها في اتجاه المشاركة الفعالة منعاً لاحتمال وصول "طالبان" إلى الحكم مجدداً، وقد انعكس ذلك في التحركات الروسية الأخيرة واستضافتها لاجتماعات ثلاثية تضم مسؤولين باكستانيين وآخرين أفغان لبحث مستقبل البلاد، وسبل الحفاظ على استقراره، لكن بالنسبة للهند ليست روسيا ما تحيرها في أي استراتيجية أفغانية، بل إيران، إذ برغم تقارب الهند مع إيران في الآونة الأخير هناك جملة من الحساسيات تنغص التحالف معها، أولها أن نيودلهي غير متأكدة بعد من موقف طهران من "طالبان"، لا سيما في ظل التقارير التي تفيد أن إيران تقدم الدعم لعناصر "طالبان"، بحيث يبدو أن المسؤولين في إيران يلعبون على الحبلين في الساحة الأفغانية. وبالإضافة إلى ذلك هناك التخوف الهندي من تداعيات البرنامج النووي الإيراني، فمع أن الهند تدعم علناً حق إيران في الاستخدام السلمي للطاقة النووية، فإنها لا ترغب في بلد نووي بالقرب منها. ولعل ما يدلل على هذا التخوف الهندي من إيران نووية تصويتها خلال ثلاث مناسبات في الوكالة الدولية للطاقة الذرية ضد طهران، ولا تستطيع الهند أيضاً إغفال الحساسية التي يثيرها التعامل مع إيران لدى دول الخليج العربي المتوجسة من البرنامج النووي الإيراني، وهو ما يدفع الهند إلى توخي المزيد من الحذر قبل الإسراع إلى تمتين علاقاتها مع طهران، لا سيما وأن بلدان الخليج العربي تتمتع بعلاقات جيدة وتاريخية مع الهند وتزودها بجزء كبير من احتياجاتها في مجال الطاقة لتحريك دواليب اقتصادها المتنامي. لكن رغم كل هذا التريث والحذر في العلاقة الهندية- الإيرانية، تجد نيودلهي نفسها مجبرة على التباحث مع المسؤولين الإيرانيين حول مستقبل أفغانستان في ظل غياب بدائل أخرى، فالهند متخوفة كثيراً من تنامي النفوذ الباكستاني في أفغانستان والدور الذي قد تلعبه في عودة "طالبان" إلى الحكم. ولا ننسَ أيضاً أن الهند استثمرت ما لا يقل عن 2.1 مليار دولار في أفغانستان ومن غير الوارد أن تسمح بتعرض تلك المصالح التجارية والاقتصادية للضرر، أو خسارة استثماراتها، لا سيما بعد الهجمات التي تعرضت لها تلك المصالح في الفترة الأخيرة واستهداف فنادق ينزل فيها مواطنون هنود، تلك الهجمات التي اتهمت فيه الهند غريمتها باكستان بالوقوف وراءها لمنعها من التواصل مع الشعب الأفغاني وبناء جسور الثقة بينهما، وتحاول الهند التي تدعم كرزاي وحكومته في كابول إبقاء علاقاتها متميزة مع البشتون في أفغانستان من خلال إقامة مشاريع إنمائية تكسب بها قلوب الأهالي، لا سيما وأن البشتون يشكلون أكبر عرقية في البلاد، ومن الضروري التصالح معها لضمان المصالح الهندية، لكن في كل هذه المحاولات المبذولة حالياً من قبل قوى إقليمية لبعث الحياة في أوصال التحالف الشمالي يغيب عن الساحة الأفغانية ذلك القائد المهم في حجم "أحمد شاه مسعود"، فمن دون زعيم يحظى بنفس الاحترام والمكانة التي كان يتمتع بها القائد المغدور، لن تنجح خطط بعث التحالف ومنع وصول "طالبان" إلى السلطة.