منذ عقود قليلة تجدّد، في العالم العربيّ، الاهتمام بالنصّ الديني، استنباطاً وقراءة وتأويلاً، وذلك لأسباب شتّى ومتفاوتة. فالبيئة المؤمنة، لاسيّما منها تلك التي خضع إيمانها للتسييس والأدلجة، وجدت في هزيمة يونيو 1967 مناسبتها لـ"العودة" إلى "الأصول" و"الجذور"، ومن ثمّ النبش فيها. وكان دليلها في ذلك أنّ الناصريّة والمشروع القوميّ العربيّ برمّته قد أصيبا بنكسة كبرى أودت بوعودهما، وأنّه لم يبق إلاّ الإسلام طريقاً وحيداً للخلاص والحلّ. وما دام الأمر هكذا، بات من المستحسن أن نلمّ بديننا وثقافتنا وتراثنا. وفي السبعينيات، بعد حرب أكتوبر 1973، وخصوصاً بعد الثورة الإيرانيّة في 1979، وجدت الوجهة هذه موادّ كثيرة، ولو كانت متضاربة المصادر، لتعزيزها. وقد عثر التضارب، في أثناء الحرب العراقيّة- الإيرانيّة طوال الثمانينيات، على ضالّته، حيث تجلّى الاهتمام بالدين في زيّ سجاليّ وتنافسيّ سُنّيّ- شيعيّ لم تبرأ منه البلدان كلّها التي يقيم فيها أهل المذهبين. ولكنْ على امتداد هذا التديين المتعاظم، وفي موازاته، انضمّت إلى الاهتمام بالنصّ الدينيّ أصوات كثيرة جاء بعضها من الجامعات وأعمال تحقيق التراث، لاسيّما بين من درسوا في البلدان الغربيّة، كما صدر بعضها الآخر عن اهتمامات عريضة بالشأن العامّ كان معظم الخائضين فيها من أصول يساريّة أو قوميّة، علمانيّة أو إلحاديّة، استشعرت الدور الكبير الذي يلعبه الدين في الحياة العربيّة العامّة فضلاً عن الخاصّة. وقد ظهر في هذا الوسط من انحاز إلى الدين ساعيّاً إلى مصالحات مع الحداثة أو مع السياسات التحرّريّة والاستقلاليّة تكون لصالح الدين. كما ظهر من سعى، في المقابل، إلى مصالحات تحاول تطويع الدين للحداثة أو لهذا الوجه أو ذاك من وجوهها. وفي الآن نفسه، وُجد من ركّز جهده على الإصلاح الدينيّ وعلى العلمنة لذاتهما كما لانعكاسهما على الدنيا والدين سواء بسواء. ذاك أنّ الإصلاح والعلمنة إذ يحدّثان الاجتماع السياسيّ والوطنيّ، فإنّهما ينقذان البُعد الروحيّ من الانجراف في "وحول" السياسة والمصالح والحزبيّات على أنواعها. وهذا الاهتمام الأخير هو أكثر ما يسترعي التوقف عنده ويستدرج المناقشة، لاسيّما حين يعبّر عن نفسه بمشتغلين بالغي الجدّيّة والدأب مثل جورج طرابيشي ومحمّد أركون. ولا يسع موقـِّع هذه الأسطر إلاّ أن يعلن إعجابه بهذا الجهد واتّفاقه، في نهاية الأمر، مع دعوتي العلمنة والإصلاح الدينيّ، وتثمينه للخلفيّة الحديثة التي يصدر عنها. ومع هذا، يستحقّ الموضوع أن يطرح سؤالاً يتعلّق بنظام الأولويّات والمراتب من داخل عمليّة الحداثة الواسعة، إذ هل يمكن طرح مهمّة حداثيّة بعينها، سمّها العلمانيّة أو الديمقراطيّة أو حقوق المرأة، قبل الاستقرار في حداثة سياسيّة تشكّل الركيزة التي ينهض عليها المشروع الحداثيّ برمّته والإطار الذي يؤطّره؟ ما تزعمه هذه الأسطر، مستقوية بالنموذج الكلاسيكيّ الألمانيّ كما رعاه، في القرن السادس عشر، المصلح الدينيّ مارتن لوثر، أنّ الوطنيّة شرط للإصلاح الدينيّ ولباقي الأجندة الحداثيّة، من دون افتراض أسوار صينيّة في ما بينها. ذاك أنّ البروتستانتيّة لم تولد ولادتها الأولى إلاّ بوصفها "ديانة" الأمّة الألمانيّة المنشقّة عن وحدة العالم اللاتينيّ العابر للحدود. وهذا، في حالتنا العربيّة والإسلاميّة، يطرح مهمّات معقّدة يتّصل بعضها بتصفية الحساب مع الإيديولوجيّات القوميّة والدينيّة السائدة على نحو أو آخر، كما يتّصل بعضها الآخر بالموقف من "الغرب" ومن الاشتباك معه بوصفه حامل الوطنيّة إلينا، مثلما هو حامل العناوين الحداثيّة الأخرى. والأمر هذا لا تقتصر صعوبته على وجود المشكلة الفلسطينيّة وباقي المشاكل العالقة بيننا وبين "الغرب"، بل تمتدّ إلى التاريخ الذي حكم فكرة "الإصلاح الإسلاميّ"، أقلّه عند جمال الدين الأفغاني، بوصفها فكرة عابرة للحدود الوطنيّة ومناهضة للغرب في وقت واحد. هكذا زوّدتنا الناصريّة، بسبب هذا التراكم الذي ورثته وطوّرته، بدرس بليغ مفاده أنّ الصدام بالإسلام السياسيّ، لم يحدّ من المبايعة الجماهيريّة لعبدالناصر، ما دام أنه يناهض السياسات الغربيّة ويعد بريادة وحدة عربيّة تشكّل "كمّاشة" حول إسرائيل. على أنّنا، في المقابل، إذا ما قدّمنا الإصلاح الدينيّ والعلمانيّة (وأيضاً الديمقراطيّة وحقوق المرأة...) على مهمّة إنشاء الدولة- الأمّة وما يلازمها من إجماعات، عرّضنا هذه المفاهيم المفتاحيّة لإعادة تأويل يؤدّي إلى استحواذ العصبيّات الأهليّة، أو حتّى الدينيّة المؤدلجة، عليها. فليس سرّاً، على ما نرى في عديد البلدان المشرقيّة على الأقلّ، أنّ المطلب العلمانيّ مطلب أقليّ مزمن، باشره المعلّمون العلمانيّون المسيحيّون في جبل لبنان أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، تماماً بقدر ما غدا المطلب الديمقراطيّ مطلب أكثريّات عدديّة وأصوليّات شعبويّة دينيّة ترى فيه قاطرتها إلى السلطة. وهذا ناهيك عن أنّ الأجندة الحداثيّة لا تقبل التجزيء والتثبّت عند أحد عناوينها، على أهميّته الفائقة، بحيث ننشطر إلى علمانيّين يقارعون الديمقراطيّين (لأنّهم يخافون طغيان لونهم الدينيّ والمذهبيّ) وديمقراطيّين يقارعون العلمانيّين (لأنّهم يريدون الإبقاء على استضعاف لونهم الدينيّ والمذهبيّ). ولا بأس، هنا، بالتذكير بلبنان وتجربته قبل أن تندلع حرب 1975 الأهلية- الإقليميّة ثمّ تتوالى فصولاً. فحين كان البلد متماسكاً نسبيّاً، وعندما كانت نهضته ترتبط بدرجة من الإجماعات الوطنيّة المرفقة بالاستقرار الأمنيّ، أمكن الحديث عن ظهور "إسلام لبنانيّ" و"مسيحيّة لبنانيّة" رعاها رجال دين وباحثون في الدين كحسن صعب وصبحي الصالح وموسى الصدر وبشارة صارجي وغريغوار حدّاد وجورج خضر، ممّن جهدوا لتكييف كلّ من الدينين مع الآخر، كما جهدوا لتكييف الدينين مع المحيط الزمنيّ الأعرض. وأغلب الظنّ أنّ البلدان المشرقيّة الأخرى شهدت حالات مماثلة في لحظات استقرارها على وطنيّة واثقة وعلى إجماعات أمكن لها أن تتحرّر من الهواجس الأمنيّة والوجوديّة، حتّى لو كانت لحظات قصيرة وعابرة.