"إن كتابة سيرة ذاتية لم تعد مجرد سرد إنشائي للمعلومات والأحداث والتواريخ، وإنما صارت من الفنون الأدبية التي لها اشتراطاتها الخاصة، فضلاً عن حاجتها إلى موهبة خاصة، وتقنيات بلاغية معينة، ومقدرة فذة على صياغة المعلومة في قالب أدبي جذاب، وجرأة في المكاشفة والبوح، وذكاء في كيفية إيجاد تناغم ما بين العام والخاص، والذاتي والموضوعي، وجعل القارئ في حالة ترقب دائمة"، هذا ما يـؤكده الكاتب البحريني د. عبدالله المدني، وهو أحد أبرز المتخصصين العرب في الشؤون الآسيوية، في مقدمة كتابه "لوحات بيوغرافية من الشرق الأقصى"، الصادر مؤخراً، والذي يجمع فيه سيَراً تعريفية ببعض أبرز وأشهر الشخصيات من الرجال والنساء في دول شرق آسيا ممن لعبوا في بلدانهم أدواراً مؤثرة، سلبية أو إيجابية، خلال العقود الأخيرة، مع حرص خاص على تنويع الوجوه والدول المعنية وعدم الاقتصار على التعريف ببعض الزعماء ومشاهير الساسة الرسميين وحدهم باعتبارهم إيقونات إعلامية أو حتى نجوماً. كما لم يكتف الكتاب بالوجوه الإيجابية ومن يستحقون التخليد والإشادة من الساسة وأصحاب الإنجازات والانتصارات وحدهم، وهم عادة من يثيرون اهتمام كُتاب السير، بل إن هذا العمل المنوع هو "بإيجاز كتاب يحمل بين دفتيه قصص رموز صنعت الحدث الآسيوي وواكبته وأثرت في مجريات الأمور، فاستحق بعضها الإشادة والخلود، والبعض الآخر اللعنة والازدراء، بحسب طبيعة قراراتها وسياساتها". ويتألف الكتاب من أحد عشر فصلاً استعرض المؤلف في كل واحد منها سيَراً لبعض أكثر الشخصيات تأثيراً في بلد آسيوي معين، ففي الفصل الأول، مثلا، المخصص لليابان، كتب عن زعماء منهم هاشيموتو وأوبوتشي وموري وصولاً إلى كويزومي، وعلى سبيل المثال في الحديث عن "ريوتارو هاشيموتو: الشخصية الكارزمية المزخرفة"، الذي تسلم قيادة اليابان سنة 1996 نجد عرضاً حول ملكاته السياسية العالية وقدرته الكبيرة على إجادة فنون الصبر، وتنمية علاقاته السياسية وحسن استثمارها، "وإذا كان هاشيموتو قد أجاد فنون الصبر والانتظار، فإنه أجاد أيضاً قراءة المتغيرات الكثيرة التي طرأت على المجتمع الياباني خلال عقدي الثمانينات والتسعينات، لا سيما لجهة تنامي المشاعر القومية، والبحث عن الانتصارات التي تعوض شيئاً من الكبرياء الوطنية المجروحة منذ نصف قرن". وفي الفصل الثاني المخصص للصين استعراض لسير ثمانية وجوه من ضمنهم الزعيم الحالي "هو جينتاو: مجدد شباب الصين"، الذي يستعيد الكاتب مسيرة صعوده وطرفاً من ملكاته وقدراته الشخصية، محللاً على هامش ذلك بعض التوجهات الصينية القائمة أو المنتظرة في ظل قيادة "جينتاو". وفي الفصل الثالث حول "الكوريتين" يستعرض الكتاب كذلك سير "كيم داي جونج" الذي يصفه بأنه "أكثر زعماء آسيا علماً وثقافة وتحصيلاً"، ثم "روه مو هيون: أبراهام لينكولن كوريا"، وصولاً إلى الزعيم الكوري الجنوبي الحالي "لي ميونج باك: من بائع للمثلجات وجامع للقمامة إلى سيد للقصر الأزرق". هذا طبعاً دون إغفال سيرة الزعيم الكوري الشمالي "كيم جونج إيل". وبتتابع الصفحات والفصول تتعدد الوجوه والسير بشكل ملفت كذلك في الفصل الرابع الخاص بإندونيسيا، حيث يعيد د. المدني كتابة سير شخصيات عامة مشهورة وأخرى أقل شهرة وإن لم تكن بالضرورة أقل تأثيراً، وهنا تنتظر القارئ عناوين من قبيل: "سوهارتو: جائزة الفساد العالمية " و"بوب حسن: الرجل الغامض في نظام سوهارتو"، و"برابوو سوبيانتو: بينوشيه إندونيسيا"، و"عبدالرحمن وحيد: الزعيم العصي على الفهم"، و"ميغاواتي سوكارنو بوتري: سحابة بيضاء وسط سحب داكنة"، كما يجد تسجيلاً لسيرة "أبوبكر باعشير"، و"رضوان عصام الدين: ابن لادن الشرق الأقصى". ويخصص المدني الفصل الخامس للتعريف بشخصيات مؤثرة من تيمور الشرقية، في حين نجد في الفصل السادس بعض الوجوه من ماليزيا وأولهم كما يمكن أن نتوقع "مهاتير محمد: صاحب المعجزة الذي فقد ظله"، كما تنتظم في الفصل السابع وجوه وشخصيات من الفلبين وهنا تتردد أسماء ووجوه منها كورازون أكينو وفيدل راموس وجوزيف إسترادا وغلوريا أرويو، وغيرهم. وفي الفصول اللاحقة من الثامن إلى الحادي عشر يستعرض المدني، على التوالي، سير شخصيات وزعامات من تايلاند، وسنغافورة، وبورما، وكمبوديا، ليستكمل بذلك الجهد الكبير الذي يضمه هذا الكتاب بين دفتيه، وفي صفحاته الـ316. أخيراً، لعل من نافلة القول التذكير بأهمية هذا الكتاب، بالنظر إلى الفجوة الكبيرة التي يسدها في المكتبة العربية، خاصة أن الاهتمام بالتأليف عن بلدان شرق آسيا نادر، وأندر منه بكثير الكتابة الصادرة عن معرفة واسعة بتفاصيل وخصوصيات ثقافة تلك المنطقة، التي بدأت الآن تتحول إلى بؤرة استقطاب واهتمام عالمي بفعل صعود معظم بلدانها الاقتصادي، والتي أصبحت تضم ثاني أكبر اقتصادين عالميين، هما الصين واليابان. الكتاب: "لوحات بيوغرافية من الشرق الأقصى" المؤلف: د. عبد الله المدني الناشر: مركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة تاريخ النشر: 2010