الكم الهائل من الفضائيات التي تتكاثر على مدار العام، لم تمثل حتى الآن إضافة تذكر إلا فيما ندر مع نزر يسير يكاد لا يبين في ذلك البحر الهادر. وحديثنا يصب في خانة البرامج "الحوارية" التي لا تعرف الهدف منها لأنه لا يمكن إطلاق صفة "الحوار" عليها، فبمجرد ما يبدأ أطراف الحوار الحديث، سرعان ما يتحول البرنامج برمته إلى ساحة حرب كلامية لا يراعى فيه أدنى الأسس والقواعد التي تفرض نفسها لضبط الحوار وعدم الخروج عن اللائق العام الذي يجب أن يتناسب مع الذائقة المجتمعية. وكذلك لا تستطيع أن تطلق على معظم هذه البرامج مصطلح "المناظرة" لأنه أيضاً يجب مراعاة الكثير من المحاذير فيها، وخاصة أن الكلام يطلق عنانه في السماء إلى الجمهور الذي يشعر بأن وقته قد ضاع فيما لا نفع فيه إجمالاً. ومن خلال متابعة برنامج حواري خاص بالخلاف بين بعض المذاهب الإسلامية، وبعد قرابة ساعة من الجدال العقيم لم يدرك أحد أطراف الحوار ما هو الموضوع الذي جاء للحوار حوله على وجه الدقة، لأن الوقت ضاع في رفع الصوت بما لا تحتمل الأذن العادية سماعه. يفترض في الحوار حول أية قضية، شائكة كانت أم شائعة، الوصول إلى قناعات تخفف من حدة الخلاف بين الأطراف المتصارعة في الحوار الدائر على الهواء. وأيضاً إقناع جزء من الجمهور بما يدور من نقاط حول موضوع معين، أما خروج الجميع بخفي حنين من هذا المشهد فأمر بحاجة إلى إعادة نظر. ومن سلبيات هذه البرامج اختلاط الحوار أيضاً بالشخصنة، فعندما يرتبط الفكر المحاور حوله بأشخاص المتحاورين، يصعب التوصل إلى حل يرضي جميع الأطراف فضلاً عن الجمهور العريض من المتابعين ليس للإمتاع بل للانتفاع. ما الفائدة المرجوة من برنامج حواري يخرج طرف في نهايته مسلماً لا يشق له غبار وطرف آخر خارج عن الملّة دون أي اعتبار في بعض قضايا الدين الخلافية. أما في السياسة فإن الغارق في الليبرالية يعود أدراجه ليعطي المشاهدين انطباعاً بأنه أفضل من كل الليبراليين في العالم حتى ممن أسسوا قواعدها الكلاسيكية في الغرب. وفي الاقتصاد دفاع مستميت عن رأسمالية متوحشة أو اشتراكية فوضوية تنزع من الفرد أي نزعة إلى حق الملكية الخاصة. أما أن يتم الحديث حول فكرة تجمع بين إيجابيات الفكرين الرأسمالي والاشتراكي على سواء، فهذا يعد خروجاً غير محمود على الحوار! وهو ضد الحوار إن كان هذا هو الطرح، فلا يحق لمن يمسك العصا من الوسط أن يُحاور. في عالم المال هناك نظريات تدعو أصحاب الأعمال إلى اتخاذ كل ما يمكن من إجراءات للوصول إلى نفع كل الأطراف المشاركة في العملية التجارية، بحيث يخرج طرفا العقد رابحين في أية صفقة سواء ماديّاً أو معنويّاً، وإلا بطلت العقود من أولها ودخلت إلى سراديب المنازعات والمحاكمات. وأما في عالم الأفكار المجردة فإن الوصول إلى هذه النتيجة متعذر عبر البرامج الحوارية كما نراها في العديد من القنوات، فالمحاكم يصعب عليها إنصاف المتضررين من بعض الطروحات الغارقة في ظلمات القرون الوسطى، فلا يملك المشاهد حلاً فوريّاً لهذه الإشكالية الفضائية، إلا باستخدام حريته الشخصية في الانتقال إلى ما هو أنفع بدل الدخول مع شريكه في المشاهدة في حوار آخر لا طائل من ورائه إلا اختلاف الأصدقاء والأحباء وتعكير الأجواء بين من لا ناقة لهم في مثل هذه البرامج ولا جمل.