يعود دومينيك دوفيليبان، الشاعر والكاتب الفرنسي، ورئيس الوزراء ووزير الخارجية السابق، من دهاليز السياسة الوعرة و الشاقة إلى واحة الثقافة؛ داعيّاً إلى تعادلية كونية في الأنماط الثقافية؛ دون أن تكون مُملاة ومفروضة من طرف واحد؛ وأن تساهم فيها كل منطقة بفعالياتها المحلية. كما شدد على أننا بحاجة إلى ثقافة اعتراف كل طرف بثقافة الآخر واحترامها، باعتبارها الوسيلة الوحيدة للتوفيق بين مطلبي "الانخراط"في الكونية"، و"الحفاظ على الهوية والخصوصيات الثقافية". وقد شدد أمين عام منتدى أصيلة في ندوة "الدبلوماسية والثقافة" على أن العولمة أفرزت فاعلين جدداً في الفضاء السياسي والثقافي وهم مؤثرون في القرارات والسياسات الكبرى، ويتمثلون في قوى المجتمع المدني التي أدركت الرسالة النبيلة للثقافة في نشر قيم الإخاء والمساواة والعدالة والتعاون بين الشعوب والثقافات. وإذا ما استعرضنا واقع الساحة الثقافية في الوطن العربي نجدها غارقة في محليتها، متشبثة بالماضوية ونماذجها، تتضخم فيها الأنا غير الواقعية، أو "نحن الأول" أو "نحن الأفضل"، الأمر الذي يضيّق حلقة الانغلاق على الذات، وبالتالي يدفع لنبذ أو رفض كل الثقافات الأخرى، التي تحاول السياسة أحياناً استخدامها لترطيب العلاقات بين الدول والشعوب. وهذا ما أسَّس للشرخ أو الهوة السحيقة بين ثقافات المشرق العربي وثقافات المغرب العربي، وجعل كل فريق يحمل شعارات التميّز أو الشعور بالسمو في مقابل الطرف الآخر، وهذا أيضاً ما يُضعف أو يُجهض محاولات العولمة الثقافية، ويصد الأبواب في وجه أية محاولة لقبول الآخر، تماماً كما تم عبر المدارس المتشددة دينيّاً، أو عبر الأحزاب التي تطرفت كثيراً في "مقاومة الاستعمار"، ثم عادت بلدانها إلى الارتماء في أحضان ليس الاستعمار، بل عدو الأمة وعقدت معه اتفاقيات. وحصل أن انفصلت الثقافة الشعبية (المتحررة) عن الدولة ومارست دورها كمناوئ لكل أشكال التعاون مع استعمار الأمس. وقوبلت هذه الاتجاهات بالرفض أو الإقصاء الثقافي الحكومي، ولربما المضايقات في الرزق والحرية. وإذن فالمثقف العربي، إما أن يكون "آلة" يجر عجلة الدولة الثقافية، دون أن يكون له رأي في الاتجاهات السلبية لثقافة أمته! أو يكون خارج "نعيم" الدولة، ولا يتحقق له ما يتحقق لمثقفي السلطة وموظفيها. وفي الحالتين هو الخاسر، لأنه لن تتهيأ له الظروف الملائمة للإدلاء برأي صائب، يساهم في العولمة الثقافية أو حتى برامج الثقافة المحلية، وينعم برسالة الثقافة النبيلة -بكل ما فيها من إخاء ومساواة وعدالة وتعاون مع الشعوب الأخرى- بل إن الثقافة المسيسة جعلت عنصر الرسمية (الانتقائية ) -التي قد لا تعبر عن حالة الحراك الثقافي في المجتمع- هو الواجهة "الخادعة " لتفعيل السياسة مع الدول الأخرى. ولذلك، لم تستطع الثقافات المحلية الوقوف أمام هجمات المظاهر الثقافية الأميركية والغربية، المتعلقة بالمأكل والملبس واختيار أدوات الترفيه. ونجح الإعلام الأميركي في نشر قيم وأنماط ثقافية أميركية بصورة واضحة، في الوقت الذي تلاشت فيه قيم وأنماط الثقافة المحلية. ذلك أن الدولة الحديثة في العالم العربي ما زالت تعتقد أن "استيراد" مثل هذه القيم عبر الثقافة هو الذي يدعم العلاقات. وللأسف، فإن بعض القيم الحقيقية لم يتم "استيرادها" لأنها ثقيلة الهضم على المعدة الرسمية. ولذلك، لم يتم استيراد الكتب المتعمقة في التاريخ أو السياسة، ولا نماذج مسارح الولايات المتحدة الشعبية، ولا الشعر المقدِّس لقيم الحرية والانفتاح على الآخر وكرامة الإنسان! وإذن فالعلاقة السياسية بين الجانبين قد أطّرت العلاقة الثقافية في إطار الثقافة الاستهلاكية الاقتصادية التي لا تعزز دور المشاركة في الثقافة. بل إن الأسابيع الثقافية التي تقام في الولايات المتحدة تركز دوماً على صورة الدول وإنجازاتها -مع ملامح باهتة استعراضية لنماذج من التراث والجمال- دون الغوص في متاهات الفكر المتشعبة أو مشاركة النخب التي يمكن أن تسائل الإدارة الأميركية أو الشعب الأميركي في قضايا الفكر والثقافة الحقيقية. إن الانخراط في الثقافة الأممية لن يتحقق بهذه الطريقة بتوازن، مهما استوردنا من ملامح الحياة الغربية. وفي ذات الوقت، فإن "ثقافة الهيمنة" ستزداد مع "نهم" الطرفين -العربي الرسمي والرأسمالي الغربي- إلى الاستثمار والدعم! ولعلنا نذكر في هذا المقام أزمة اليونسكو عام 1974 -عندما طالبت دول الجنوب الفقيرة بتوازن عادل لتدفق المعلومات من الشمال الصناعي الغني إلى الجنوب الزراعي الفقير- وها هي ملامح الثقافة اليوم تعود -ضمن أحادية تدفقها- بنفس الملامح التي تحرم الدول المستهلكة من أخذ دورها في (المشاركة) في المشهد الثقافي الأممي، لا أن تكون "متفرجاً" طيعاً ومستهلكاً للنماذج الثقافية التي تفرضها بعض الأنظمة ضمن توجهاتها السياسية مع الخارج. وإذا كنا سنعترف بقوى المجتمع المدني، فإن بعض الأنظمة -خصوصاً في المشرق العربي- ما زال يضع العراقيل أمام هذه القوى، ويجهض كل محاولاتها القيام بأدوارها في خدمة المجتمع. ذلك أن الدول الحديثة تعتبر الثقافة والفنون والتراث ملكاً لها، وهي التي تصمم وتُفعّل وتبرز ما تراه مناسباً من نماذجها الثقافية. وفي الوقت نفسه يمكن أن تتجاهل وتشلّ وتُقصي النماذج التي قد تكون مخالفة لنماذجها. أو أنها قد تجاوزت الإطار الثقافي التقليدي والمتمثل في ثقافة الاستعراض (Show) السطحية التي لا تنفذ إلى الأعماق، ولا تفعّل دور العقل في التجاوب مع الرؤى الفكرية التي تعتنق الحرية والإبداع، وتدخل إلى مجاهل وفضاءات لم تتعود عليها الثقافة الرسمية. ومن هنا، فإننا نعتقد أن الاتحادات والجمعيات الثقافية هي الأجدر بتخليق جيل من المبدعين العرب بحيث تكون مشاركتهم متساوية مع الآخرين، تقابل حججهم بالحجة والمنطق العقلي النقدي لا النفاق السياسي أو البهرج الإعلامي. وإذا كانت منظمات المجتمع المدني هي التي ترسي القيم المذكورة آنفاً، فالأجدر ببعض الحكومات العربية -كي تنجح عملية الحوار مع الآخر بصورة متكافئة- أن تعيد الحق والحياة لمنظمات المجتمع المدني، وتعتبرها شريكاً إيجابيّاً لا منافساً سلبيّاً في العمل الثقافي والاجتماعي والسياسي. ولا داعي للخوف أو التوجس من أعمال هذه المنظمات؛ طالما أنها تعمل ضمن ضوابط قوانين الدول. وإلا فإن تفوّق ثقافة "الوجبات السريعة" و"المياه الغازية" و"إبهار التكنولوجيا" سيستمر، ولن تكون للعرب أية مشاركة فيها، مهما ارتفعت الأصوات، ومهما تحدث بعض الرسميين عن الثقافة العولمية وضرورة المشاركة فيها.