"تعلّموا العلم وعلِّموا"، وصية الرسول صلى الله عليه وسلّم، وقد أحسَنَت أداء الوصية "جامعة الملك سعود" بالرياض، و"جامعة الملك فهد للبترول والمعادن" بالظهران. دخول الجامعتين "تصنيف شنغهاي" الذي يضم أفضل 500 جامعة في العالم اعتراف دولي محكم بحسن الأداء. فالتصنيف الذي يعلن نتائجه سنويّاً يعتمد على مجموعة معايير موضوعية، وقاعدة معطيات مستقلة، ويُعتبر أفضل مؤشر في تحديد أداء الجامعات. يستمد "تصنيف شنغهاي" قوته من معاييره الأساسية لقياس جودة تعليم الجامعات، وفق عدد خريجيها ومنتسبيها الحاصلين على جوائز "نوبل" أو "وسام فيلدز" الخاص بعلوم الرياضيات. ويحصي التصنيف عدد الاستشهادات ببحوث الجامعة في 21 قاعدة أبحاث علمية، وعدد بحوثها المنشورة في أكثر دوريتين علميتين نفوذاً، هما "نيتشر" البريطانية، و"ساينس" الأميركية، ودوريات رفيعة مماثلة بالنسبة للعلوم الإنسانية. ويقيّمُ الأداء العام للجامعة على أساس معدل المعايير المذكورة نسبة إلى عدد أعضاء هيئتها التدريسية. وتُعطى لكل معيار درجة محددة من المجموع الكلي البالغ مئة درجة. درجة مئة نالتها "هارفرد" التي احتفظت بالأولوية منذ تأسيس "تصنيف شنغهاي" عام 2003، وتبعتها في قائمة العشرة الأوائل سبع جامعات أميركية، وهي على التوالي "بيركلي"، و"ستانفورد"، و"معهد ماساشوسيتس للتكنولوجيا"، و"معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا"، و"برنستون"، و"كولومبيا"، و"شيكاغو". فيما نالت الجامعتان البريطانيتان "كيمبردج" المرتبة الخامسة، و"أكسفورد" العاشرة. وإذا كان فوز الجامعات الغربية بالأولوية متوقعاً فإن صعود الجامعتين السعوديتين، وجامعات منطقة آسيا والمحيط الهادئ مفاجئ. فهذه الجامعات، وعددها حاليّاً 106 تمثل خُمس القائمة. و"تصنيف شنغهاي" نفسه يقدم صورة باهرة للصعود الآسيوي، حيث بدأ بكتاب أصدرته بالصينية "جامعة شنغهاي" لتحديد مكانة جامعات بلدها، فأصبح خلال بضع سنوات أهم معيار لتحديد أمهات الجامعة العالمية. ويسجل ظهور الجامعتين السعوديتين في التصنيف حدثاً مدهشاً، كظاهرة "الانبثاق" التي تنشأ عن تراكم تفاعلات عدة بسيطة. جامعتا "الملك سعود"، و"الملك فهد" احتلتا على التوالي المرتبة 391 و480 وهما العربيتان الوحيدتان في "تصنيف شنغهاي". جامعتان فتيتان، عمراً وحجماً تخوضان مباريات تتصدّرها جامعات عملاقة تعد أعمارها بالقرون وموازناتها بالمليارات. وتبدو قفزة "جامعة الملك سعود" من المرتبة 402 التي احتلتها عند ظهورها لأول مرة في "تصنيف شنغهاي" في العام الماضي غير قابلة للتصديق، كفوز فريق مغمور مرتين في مباريات كرة القدم العالمية. وكان الفوز مناسبة لتبادل شائعات عبر الإنترنت حول "جهود لا مثيل لها بذلتها الجامعة لاجتذاب حاملي جوائز نوبل إلى هيئتها التدريسية". ولا أعرف ما إذا كانت الجامعة قد اجتذبت عدداً كافيّاً من حملة "نوبل" لتأمين نسبة 20 في المئة المخصصة لذلك، كما لا أعرف جامعة طموحة لا تبذل في سبيل ذلك جهوداً لا مثيل لها حتى مالية، إذا كان هذا هو المقصود. فرنسا تفعل ذلك، وهي التي لا تملك أعرق الجامعات فحسب، بل لقد حقق علماؤها فتوحات في تطوير المفاعلات النووية الحديثة، والقطارات فائقة السرعة، وتقنيات الفضاء. مشروع "باريس-سكالاي" الذي يُبنى حاليّاً في الحقول الخضراء جنوب باريس ويكلف نحو 6 مليارات دولار، وسيضم 23 جامعة عند اكتماله عام 2015. الهدف من هذا الحرم الجامعي العملاق "الارتفاع إلى مرتبة العشرة الأوائل" حسب "هارفي لي ريش"، رئيس المشروع. ومن المعروف أن معاهد فرنسا تخرج ألمع العلماء، لكنها لا تستطيع الاحتفاظ بهم، وبينهم علماء عرب مرموقون كعالمي الفضاء اللبنانيين الأميركيين مصطفى شاهين، وشارل العشي. وإذا لم تكن قادراً على الاحتفاظ بهم اجتذبهم. فعلت ذلك "جامعة الملك فهد" عندما اجتذبت العشي، المشهور بتطوير أنظمة الرادار المستخدمة في "المكوكات" الفضائية إلى "المجلس الاستشاري الدولي" للجامعة. وقد أنشئ المجلس عام 2007، وأمينه العام العالم السعودي خطاب الهنائي، دكتور في علوم الجيولوجيا من "إمبريال كوليج" جامعة لندن، ورئيس المجلس مارتن جيشكه، رئيس جامعة "بوردو" الأميركية، وأعضاؤه رؤساء وعمداء جامعات النخبة العالمية، مثل "ستانفورد" و"هارفرد" و"شيكاغو"، و"كيوتو" اليابانية، و"ميونيخ للتكنولوجيا" الألمانية، و"معهد النفط الفرنسي"، و"سنغافورة"، إضافة إلى رؤساء صناعات النفط والطاقة العالمية، مثل "أرامكو"، و"شيفرون" و"جنرال إلكتريك". ويجتمع المجلس مرتين سنويّاً لمناقشة استراتيجية الجامعة، ومتابعة تطبيقاتها، وإدارتها، وأجندة البحوث، والإنفاق، والموارد، وخطط تطوير برامجها التعليمية، ومشاريعها المشتركة مع الجامعات العالمية. وللدخول في مشاريع بحث مشتركة مع جامعات النخبة العالمية كالتنقيب في القمر؛ ينبغي أن تكون هناك أولاً. وقد كنتُ هناك، ليس على سطح القمر، وإنما في مختبرات "جامعة الملك فهد" وسجلتُ تفاصيل الشراكة مع "معهد ماساشوسيتس للتكنولوجيا". وضع أسس الشراكة وآليات عملها رئيس "جامعة الملك فهد" خالد السلطان، وهو دكتور في "هندسة النظم" من جامعة "مشيغان آن أربر" (مرتبتها 22)، مع نظيره رئيس "معهد ماساشوسيتس" الذي يضم سبعين فائزاً بجوائز نوبل. وتشمل الشراكة، وهي بحثية تعليمية ثلاثة مواضيع استراتيجية؛ "الماء النقي" و"الطاقة النظيفة" و"تكنولوجيا النانو". وعدد المشاركين في البحوث مئة من كل جانب، ويغطي السعوديون نفقات سفر الباحثين، فيما يجهز الأميركيون العلماء والمختبرات والمعدات، وفي تقييم ذلك يقول التعليق الفكه "أعظم شيء اكتشفه أينشتاين هو أن الزمن فلوس"! وليس هناك أثمن من زمن العلماء سوى علمهم، وتعليمهم، والثمين في مشاريع البحوث، وعددها 16 أن الباحثين يصممون بأنفسهم مختبراتها، أي أنهم يتعلمون بالممارسة، ويتخرجون مهندسين رواداً. و"إذا سمعت أو قرأت قد تتذكر بعض ما سمعته أو قرأته، لكن إذا صنعته بيديك، وجربت عمله عن طريق الخطأ والصواب فلن تنساه". يقول ذلك العالم السعودي عمرو القطب، رئيس قسم الهندسة الميكانيكية، المشرف على مشاريع البحوث. ويرسم القطب، وهو دكتور في هندسة الطيران من "جامعة ألاباما" مهد صناعة الصواريخ الأميركية، الصورة الظريفة التالية للشراكة: "البحوث المنشورة والكتب وبراءات الاختراع لا تجعلنا خيولاً جيدة فحسب، بل مشهورة بالفوز في أكبر السباقات العالمية". وإذا كان هذا الفوز فتح للجامعة أبواب "تصنيف شنغهاي" فمن الصعب القول إنه سيضمن بقاءها فيه. فالمنافسة الأكاديمية العالمية لم تسمح لجامعة القاهرة بالبقاء في التصنيف سوى سنة واحدة عام 2006. والجامعة السعودية، كما يدل اسمها متخصصة في البترول والمعادن، أي أن فرصها في المنافسة محدودة، بينما حققت "هارفرد" السبق في علوم الزراعة، والطب، والصيدلة، والاجتماع، والرياضيات، والفيزياء، والكيمياء، وحتى الاقتصاد والأعمال. وفي ظرف كهذا "إذا لم يأت محمد إلى الجبل فليذهب الجبل إلى محمد"، وقد فعلت ذلك الجامعة، التي ارتبط اسمها بموقعها في جبل الظهران، ودخلت في تحالف بحثي عملاق مع أكبر صناعات النفط العالمية "أرامكو"، و"جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية" التي بلغت وقفيتها عشرة مليارات دولار. وكما يقول الأديب البريطاني سومرست موم "النقود هي الحاسة السادسة التي لا يمكن من دونها الاستفادة من الحواس الخمس الأخرى".