ربما تكون الجلسة الأخيرة (الثالثة عشرة) لهيئة الحوار الوطني في لبنان، التي عُقدت الخميس الماضي، هي الأولى التي تدخل في صلب قضية الاستراتيجية الدفاعية الأكثر تأثيراً على مستقبل هذا البلد. فقد طُرح، في تلك الجلسة، اقتراحان عمليان بدرجة أو بأخرى يستحق كل منهما حواراً موضوعيّاً في الجلسة القادمة المقرر عقدها في أكتوبر المقبل. يتلخص الاقتراح الأول في قيام الجيش اللبناني بانتشار قتالي في منطقة الجنوب لمواجهة أي تهديد إسرائيلي في ضوء تجربة حادثة العديسة في بداية الشهر الجاري. ويتضمن هذا الاقتراح وضع "حزب الله" قواته وسلاحه في إمرة الجيش دون أن يطلعه على نقاط تمركزها ووجودها. أما الاقتراح الثاني فهو تشكيل مجموعة مشتركة تضم عناصر من الجيش و"حزب الله" للتنسيق المستمر بين الطرفين في إطار استراتيجية واحدة. وعلى رغم أن الاقتراحين يعبران عن اتجاهين ما زالا متباعدين ويقدمان تصورين لاستراتيجية مؤقتة وليست دائمة، فهما يدلان على أن الحوار أصبح أكثر إيجابية مقارنة بما كان عليه في الجلسات السابقة. والحال أنه لم يعد أمام الفرقاء اللبنانيين إلا إبداء مزيد من الإيجابية سعياً إلى توافق على استراتيجية دفاعية، على نحو يتيح التقدم صوب عقد اجتماعي جديد. وبدون ذلك سيبقى الكيان اللبناني هشاً معرضاً للخطر ما دام مصيره معتمداً على توازنات خارجية معقدة وحسابات إقليمية ودولية متغيرة. والأرجح أن أطراف الحوار اللبناني يدركون جميعهم أن الأجواء الإيجابية المترتبة على التوافق السعودي- السوري، الذي أُعيد تأكيده لاحتواء التوتر المترتب على التسريبات الخاصة بقرار الاتهام في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري، قد لا تستمر طويلاً في ضوء تطورات هذه القضية وتشابكات الوضع الإقليمي المتوتر. فهذا التوافق هو الذي يحافظ على التهدئة التي حققها اتفاق الدوحة. وفي الوقت الذي تتفاوت فيه التقديرات بشأن فرص استمرار هذه التهدئة بدون توافق على استراتيجية دفاعية، يظل السؤال الأكثر أهمية متعلقاً بإمكانات تحرير هذا البلد الصغير من الارتهان لصراعات إقليمية ودولية كبيرة تتحكم في مصيره. فليس ممكناً لأي بلد أن يعيش طول الوقت على وقع ما يحدث خارجه صراعاً وتنافساً أو تحالفاً وتعاوناً، بحيث لا يعني إنقاذه من انفجار يهدده أكثر من انتظار الانفجار التالي. وينطوي هذا السؤال على طلاسم شتى لا يمكن فك تعقيداتها والسعي إلى حلها إلا عبر تفعيل الحوار الوطني الذي بدأ عقب انفجار "7 آيار" 2008 وأثمر اتفاق الدوحة الذي نص على استمراره في إطار هيئة تضم مختلف الفرقاء عقدت ثلاث عشرة جلسة حتى الآن. ويهدف هذا الحوار إلى التوافق على تسوية تاريخية قد لا يكون للبنان مستقبل في غيابها. فلم يتضمن اتفاق الدوحة نفسه هذه التسوية التاريخية التي لا سبيل لتحرير لبنان من الارتهان للخارج بدونها، ولكنه وضع أساساً لها يمكن البناء عليه. ولذلك كان اتفاق الدوحة، بهذا المعني، مشروعاً إما لتسوية تاريخية أو لمجرد هدنة مؤقتة مرتبطة بالتوازنات الإقليمية والدولية التي أتاحت التفاهم عليه. وفي المسافة الطويلة بين التسوية والهدنة، يقع الحوار الوطني من أجل بناء توافق حول عقد اجتماعي لبناني جديد يحدد نوع الدولة وطبيعة المجتمع، ويعالج القضية الأكثر إثارة للخلاف والقلق وهي دور المقاومة وسلاح "حزب الله". فقد تداعى العقد الاجتماعي الذي قام عليه لبنان المستقل عام 1943 وفق صيغة سياسية طائفية تصدعت في جوهرها بفعل الحرب الأهلية وأمكن ترميمها بصعوبة في اتفاق الطائف عام 1989. غير أنه على مدى العقدين التاليين، وخصوصاً بعد اغتيال الحريري في فبراير 2005 وما اقترن به من انقسام حاد في العمق، ثبت أن لبنان في حاجة إلى عقد اجتماعي جديد يوفر له شيئاً من المناعة تجاه المؤثرات الخارجية، حتى إذا لم يستطع أن يضع حداً لها. فقد لا يكون في إمكان أي توافق لبناني على عقد اجتماعي جديد أن ينهي التدخل الإقليمي والدولي في أوضاعه الداخلية، أو يقلصها بدرجة كبيرة. ولكن توافقاً مؤسساً على صيغة مقبولة للأطراف الداخلية كلها بدرجات مختلفة، وقائماً على التزامات متبادلة بينها، ومرتبطاً بحوار وطني متواصل لا ينتهي بإقرار هذا التوافق، يستطيع خلق شيء من المناعة الداخلية المعدومة تقريباً في الوقت الراهن. غير أن الحوار الوطني لم يدخل في صلب القضية ذات الصلة بالسعي إلى توافق على عقد اجتماعي جديد إلا في جلسته الأخيرة الخميس الماضي. فهذا النوع من التوافق، الذي يمثل تسوية تاريخية، لا يكون حول انتخاب رئيس أو تشكيل حكومة وغير ذلك من المسائل الإجرائية. فالتسوية التاريخية هي تلك التي تمثل نقطة تحول كبرى، وتؤسس لمرحلة جديدة حقاً. وثمة شرطان أساسيان لهذه التسوية: أولهما التوافق على استراتيجية دفاعية تحدد موقع الجيش في الدولة والمجتمع وعلاقته بالقوى المسلحة الأخرى. فليس ممكناً صوغ عقد اجتماعي جديد بدون مؤسسة عسكرية وطنية تعلو غيرها من القوى المسلحة ما دام صعباً تصور احتكار هذه المؤسسة -ومعها الأجهزة الأمنية الرسمية- حمل السلاح في المرحلة الراهنة. أما الشرط الثاني فهو توفر حد أدنى من الاستعداد لدى مختلف الأطراف الداخلية لاستعادة السيادة الوطنية تجاه الخارج. ويقتضي ذلك تعزيز القواسم المشتركة المحدودة حاليّاً بين القوى اللبنانية التي يحصر بعضها السيادة الوطنية في مواجهة الاعتداءات والأطماع الإسرائيلية. فسيادة الدولة لا تتجزأ. والدولة التي لا تعنى بسيادتها تجاه دولة صديقة تفقد الصدقية عندما تصر عليها في مواجهة دولة عدو. ويعني ذلك أن لبنان في حاجة إلى توافق على أن تكون علاقات أحزابه وجماعاته وطوائفه مع الدول الأخرى جميعها في إطار السيادة الوطنية. كما يعني ذلك تعزيز التوافق القائم على أن إسرائيل هي العدو الأساسي والأكثر خطراً على لبنان، وانضمام أطراف هامشية في تحالف "14 آذار" إليه عبر مراجعة موقفها الذي يخلط بين التهديد الذي تمثله الدولة العبرية واستغلال بعض قوى "8 آذار" هذا التهديد مبرراً لبناء قوة مسلحة كبيرة ومتنامية خارج إطار الدولة وخصماً من سيادتها. وينبغي أن يقترن بذلك استعداد قوى "8 آذار" لمراجعة مفهومها بشأن سيادة الدولة اللبنانية على أرضها، وإعادة النظر بالتالي في موقفها الذي يصر على إبقاء سلاح المقاومة كما هو ويفرَّغ الحوار الوطني بالتالي من محتواه ويحول دون التفاهم على الاستراتيجية الدفاعية التي يستحيل بناء توافق وطني على عقد اجتماعي جديد بدون الاتفاق عليها. وهكذا سيبقى لبنان في خطر.. لا يخرج من أزمة إلا ليدخل في أخرى، ولا ينجو من انفجار حتى يعاجله آخر، إلى أن يتحرر قادة أطيافه المختلفة من الإرث الثقيل الذي يسد الطريق إلى المستقبل، ويمتلكوا إرادة التفاهم على مقومات عقد اجتماعي جديد.