جاءت الاعترافات المرعبة من قِبل مسؤولين عراقيين حول كمية القنابل العنقودية، التي تحاصر العراق وتخترقه عمقاً وسطحاً، لتُحدث حالة من الأسى والاحتجاج والصدمة داخل العراق وخارجه. وتجيء تلك الاعترافات، في أوقات يخيِّم فيها جوٌ من الخوف من أحداث كونية بيئية محتملة، يعلن عنها باحثون وعسكريون في العالم. أما الاعترافات فتتحدث عن وجود خمسة وخمسين مليون قنبلة عنقودية "تحاصر العراقيين بالموت والتلوث". لقد جاء هذا الخبر في الصحافة وكأنه إعلان عن موت خمسة وخمسين مليون بقرة في الهند أو في لبنان، جرّاء الاحتباس الحراري والارتفاع الكبير لدرجة الحرارة. والحق، إن المرحلة الراهنة أصبحت تحتمل كل ما يتصل بما قد يبدو أنه "موت سريري" للكون، ومعه ضمناً البشر. فالطبيعة والمجتمعات تعيش حالات قلما عرفها الناس من عقود طويلة من السنين. كانت الحرب العالمية الثانية قد ابتلعت ملايين الناس، منهم من ماتوا بسلاح ذري، وتلت الحروب الكبيرة والمتوسطة والصغيرة، التي سيصنّف بوش نمطاً جديداً منها تحت مصطلح "الحروب الاستباقية". وتضطرب البلاد ويعاني العباد، بحيث نشأت صيغة من التحالف بين الطبيعة والمجتمعات، يمكن تحديده باستبداد رباعي (يقوم على الاستئثار بالسلطة وبالثروة وبالإعلام وبالحقيقة) في العالم العربي، وبأشكال جديدة من الخراب الطبيعي البيئي. وبالعودة إلى القنابل العنقودية الخمسة وخمسين مليوناً منها في أراضي العراق، يتساءل المرء فيما إذا أصبح كل شيء مُستباحاً؟ كيف يحدث ذلك، وكيف يصبح مألوفاً لدى البشر، والنظم السياسية في مقدمتهم؟ هل ثمة ما يسمح بالاعتقاد بأن المسوغات الأخلاقية، التي كانت تفتقدها الحروب، بكل أشكالها ومسبباتها، سابقاً، أو الحروب، التي كانت تمتلك ما قد يسوغها تحت عنوان "الحروب ضد الحروب ومسبِّبيها"، أصبحت الآن تمتلك منها ما يجعلها ظاهرة مقبولة في حياة الناس وبين الدول. ولنلاحظ أن ما يحدث على صعيدي الوجود، الطبيعة والمجتمعات البشرية، يقوم على التناغم: فالطبيعة في طريقها إلى التلف، في حين تذهب المجتمعات بعيداً في تدمير مرتكزاتها وقواعدها. وإذا كنا قد لاحظنا أن ذلك التناغم يقوم على التفكك والانهيار على الصعيدين كليهما، فإن سؤالاً صعباً وإشكالياً يواجهنا ويُلح في الوصول إلى إجابة، ذلك هو: ما العوامل التي تقف وراء هذه الحال الكونية الجديدة؟ إن البشر هم المسؤولون عن ذلك، ولكن البشر ليسوا متماثلين في المسؤولية. كان عام 2008 عاماً هائلاً في الأزمة، التي نشأت فيه ضمن حقل واضح الملامح، إنه الحقل المالي (الاقتصادي)، حقل الإمكانات الهائلة لنشأة الجشع والأنانية والرغبة في التملك، وإلا الحرب! وهذا بدوره يسمح بالوصول إلى أن النظام العالمي الجديد، الذي بشّر بنهاية عالم وببداية عالم عن طريق العنف والحرب، إنما هو -على الأقل حتى الآن- الدافع إلى اقتحام العالم في سبيل امتلاكه. لكن ذلك إذا ما استفحل، فإنه يكون تأسيساً لعهود قادمة أقل ما يُقال فيها إنها عهود الموت بطرق مختلفة. وإلا، كيف يبقى الناس صامتين، إذا علموا أن خمسة وخمسين مليوناً من القنابل العنقودية تضع العراق في حالة صفر عظمى: لقد سقط العقد الاجتماعي والطبيعي فيما بين الناس وما بين الناس والطبيعة، وأصبح كل شيء مُباحاً، وأكثر المسوغات شناعة أن يقال "إن السلطات العراقية المختصة تمنع الفرق العالمية والدولية من العمل لأسباب أمنية"!