في حمى الغضب والهياج بسبب بناء مركز ثقافي إسلامي قريباً من موقع "جراوند زيرو"، ضاعت حقيقة في غاية البساطة، ألا وهي أن معارضة بناء المركز نفسها توفر أقوى حجة لصالح بنائه في المكان المخطط له. ذلك أن معظم المؤشرات تتمحور حول رؤية مفادها أن معارضة بناء المركز تقوم على خلط ساذج بين الإسلام والإرهاب، ناشئ عن جهل فاضح بالإسلام وبالثقافة الإسلامية وأهلها. صحيح أن هذا الجهل وما يترتب عليه من سلوك، يثيران الضيق والقلق، غير أنه ليس مستغرباً في بلاد لا تزال تعتقد أقلية لها وزنها وتأثيرها في المجتمع الأميركي، أن الرئيس أوباما مسلم وليس مسيحياً. ولهؤلاء يجب القول: وماذا لو كان مسلماً؟ هل في ذلك وصمة لأحد؟ والحقيقة أن "نفي" الموقع الذي سيبنى فيه المركز إلى مكان آخر من مدينة مانهاتن لن يؤدي إلا لتعميق الفجوة بين الجالية المسلمة وجيرانها من بقية الأميركيين. وعليه فإن الوسيلة المثلى لتجسير هذه الفجوة هي مساعدة المعارضين لفكرة بناء المركز في الموقع المحدد له، على فهم أن معارضتهم ليست مبنية على حقائق، وإنما تقوم على مجرد أساطير وجد فيها البعض فرصة لاستغلالها أسوأ استغلال. وفي وسع المركز الإسلامي أن يسهم في تجسير هذه الفجوة عقب بنائه. وليس من طبيعة الأشياء، ولا العدالة أن نرى الأقلية وهي تنهض بدور تثقيف الأغلبية في أي مجتمع من المجتمعات، خاصة حين تكون الأغلبية شديدة العداء للأقلية كما هو حادث الآن في نظرة مجتمعنا إلى الأقلية المسلمة. ولكن المؤسف والمحزن في آن، أن الأقليات ظلت منذ فترة طويلة من الوقت تنهض بعبء طمأنة الأغلبية على أنها -الأقليات- لا تمثل أي تهديد أمني أم اجتماعي أم غيرهما لحياتها. وكثيراً ما تضمّن ذلك العبء تقديم البراهين والأدلة الكافية على "براءة" الأقليات، وأنها ليست أدنى مرتبة من الأغلبية في شيء، ثم إنها تستحق كل ما تعتقد الأغلبية أنه حق مكفول لها ولا جدال فيه. وعلى الأقلية في كل ذلك أن تصبر وتوسع صدرها في تحمّل سوء فهمها من قبل الأغلبية، بل وحتى تعرضها للتجريح والإساءات المستمرة من قبلها. وليت لو كانت الأقليات في مجتمعنا مطالبة بالتحلي بالصبر الجميل وحده. فهي لا تترك لحالها، إنما تُتهم باستمرار بأنها مغالية في مطالبها وتطلعاتها، وبأنها متعجلة ومندفعة إلى حد يحيل حياة الآخرين إلى قطعة من جحيم. وكان ذلك هو الحال في عام 1963 عندما اتهم الأساقفة البيض في برمنجهام بولاية ألاسكا القس وداعية الحقوق المدنية مارتن لوثر كنج بتأجيج نيران التوترات العرقية جراء قيادته حركة احتجاجات شعبية ضد قوانين الفصل العرقي بين البيض والسود، السارية في المدينة. ووصف أولئك القساوسة سلوك "كنج" بأنه "ليس حكيماً ولم يختر له الوقت المناسب". ومن جانبه رد "كنج على تلك المزاعم" عبر ما عرف من تراثه بـ"رسالة من سجن برمنجهام" التي كتب فيها: أقول لكم بكل صراحة إنه لا يزال علىّ الانخراط في حملة نشاط احتجاجي مباشر "حسن التوقيت" من وجهة نظر أولئك الذين ذاقوا الأمرّين من جرثومة الفصل العرقي. فقد ظللت أسمع منذ بضع سنوات من يطالبني بأن "أنتظر ..أنتظر" وهي عبارة تثقب وخزتها أذن كل زنجي أميركي وترن في أذنه. والحقيقة أن كلمة "انتظر" هذه ظلت تعني دائماً أن نكون في انتظار"المستحيل الذي لا يتحقق"! وبعد مرور ما يقارب الخمسين عاماً على رسالة "كنج" الاحتجاجية تلك من وراء القضبان، جاء دور المسلمين الأميركيين الآن لأن يُقال لهم أن "انتظروا" أي أن يلملوا أطرافهم ويلتزموا بالبقاء الصامت بعيداً عن الأنظار والأسماع، حتى يصبح استسلامهم على تلك الحالة مقبولاً ومريحاً للآخرين. وعلى رغم تغير الكثير من ملامح حياتنا ومفاهيمنا خلال العقود الخمسة الماضية، فإن دوي هذه الطبول التي دقت معارضةً لبناء المركز الإسلامي، تعيد للأسماع أصداء مزاعم قساوسة برمنجهام المضللة بحق مارتن لوثر كنج. فالذين ساروا على نهج قساوسة برمنجهام، ودعوا كنج ورفاقه من "المارقين" للانزواء والتزام العزلة والصمت، نراهم اليوم يطالبون بنفي المركز الإسلامي وإبعاده إلى مكان آخر، بحجة أن في بنائه قريباً من جراوند زيرو، ينطوي على خطر عظيم مدلهم لا يدركه "الجهلة"، الذين يؤيدون إنشاءه في الموقع المخطط له! والحقيقة أن نفي المركز إلى مكان مغمور، لن تكون نتيجته سوى توطيد الجهل والخوف في النفوس. ومن شأن إبعاد المركز أن يحرم عدداً أكبر من الأميركيين من تعلم ذلك الدرس الذي تبادله "كنج" يوماً مع القساوسة المتعصبين: "لا يمكن لأي من يقطن في هذه البلاد أن يوصف بأنه "خارج" حتى وإن كان في أي بقعة من بقاعها". وفيما لو أنشئ المركز في الركن السفلي من مدينة مانهاتن -وفق ما هو مخطط له- فسوف يتيح فرصة لأعدائه اليوم كي يدركوا في نهاية الأمر أن المسلمين ليسوا أعداء لهم، وأنهم ليسوا إرهابيين ولا "خارجين" عن الملة الأميركية كما زعموا واتهموهم زوراً وجهلاً وبهتانا. فالمسلمون الأميركيون هم منّا وفينا. فهم الشباب والشابات دون سن العشرين الذين يرافقون بناتنا وأولادنا في فصول الجامعات والمدارس، وهم الصغار الذين يلاعبون أطفالنا ويداعبونهم حيثما وجدوا، هم تلك المرأة اللطيفة التي تسهّل علينا شراء أغراضنا وحاجاتنا من البقالة والسوبرماركت، وهم الجار والأهل والصديق. ومن واجبنا أن نسمح لهم ببناء المركز الثقافي الإسلامي الذي يريدون. فذلك وحده ما يساعد على "إزالة ضباب سوء الفهم العميق الذي يعمي بصيرة مجتمعنا المتمترس وراء خوفه وجهله "كما حدثنا كنج" ذات يوم. ------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست"