حسمت الإدارة الأميركية أمرها، وقررت أن تبدأ المفاوضات المباشرة بين الإسرائيليين والفلسطينيين في الثاني من سبتمبر القادم، وقبلت السلطة الفلسطينية ذلك على أساس أن ثمة تطمينات أميركية بشأن هذه المفاوضات. ويثور التساؤل حول تطور مسألة المفاوضات المباشرة منذ أعطت لجنة متابعة مبادرة السلام العربية في اجتماعها الأخير الضوء الأخضر للسلطة الفلسطينية للدخول في المفاوضات المباشرة، وتركت تحديد التوقيت لها. وشهدنا بعد ذلك جدلاً سياسيّاً واسعاً داخل أوساط السلطة الفلسطينية، ناهيك عن رفض "حماس" وباقي الفصائل خارج السلطة الدخول في المفاوضات المباشرة أصلاً، واستمر هذا الجدل إلى عشية القرار الأميركي الذي حسم الأمر على النحو المشار إليه. أكان هذا كله تمثيلية توزع فيها الأدوار بإتقان؟ أحسب أنه لم يكن كذلك، فقد كانت السلطة الفلسطينية تبحث عن غطاء عربي لممارسة بعض "التشدد" في قبول المفاوضات المباشرة نتيجة خبراتها العميقة بالسلوك الإسرائيلي وبالذات في مرحلة المفاوضات غير المباشرة، ولكنها لم تجد هذا الغطاء، وفي المقابل مورس عليها ضغط أميركي شديد ممزوج كما أشارت التقارير التي تحدثت عن مفاوضات سبتمبر القادم بـ"تطمينات" من قبل الإدارة الأميركية. موضوع "التطمينات" الأميركية إذن هو الجزرة التي أقنعت السلطة بدخول المفاوضات، ولذلك يحتاج منا اهتماماً خاصّاً من منظورين: أولهما خبرتنا مع هذه التطمينات التي تمتد على الأقل ثلاثة عقود، والثاني هو مضمون هذه التطمينات نفسها. أما عن الخبرة فإن التطمينات الأميركية عادة ما تذهب أدراج الرياح في مواجهة التشدد الإسرائيلي تحت ذرائع مختلفة، فمرة يقال لنا إن الرئيس الأميركي مقدم على تجديد مدة رئاسته، ولذلك فهو لا يستطيع تحدي اللوبي الصهيوني، وثانية يحدثوننا عن انتخابات نصفية للكونجرس الأميركي يمكن أن يخسرها حزب الرئيس إن تصدى للتشدد الإسرائيلي، وثالثة يطلبون منا أن نتفهم الأوضاع الداخلية "الحساسة" في إسرائيل، إلى غير ذلك من الحجج المبرِرة للتراجع. وهكذا تبخرت هذه "التطمينات" بعد توقيع إطار السلام في الشرق الأوسط في كامب ديفيد 1978، ولقيت تطمينات مؤتمر مدريد1991 المصير نفسه، ولحقت بها تطمينات خريطة الطريق2003 ومؤتمر أنابوليس2007، بل إن من الطريف أن المرة الوحيدة التي تم فيها التوصل إلى اتفاق تفصيلي بين الإسرائيليين والفلسطينيين -بغض النظر عن رأينا فيه- وهو "اتفاق أوسلو" كان ذلك في غيبة الإدارة الأميركية. فإذا انتقلنا إلى النظر في مضمون هذه التطمينات لا يدري المرء هل يكظم غيظه أم يسقط في غياهب مزيد من الإحباط مما يجري تحت اسم ما يسمى بعملية التسوية السياسية للصراع العربي- الإسرائيلي على يد الإدارة الأميركية متأسية في ذلك بكافة الإدارات السابقة عليها منذ 1967؟ تتوقع هذه الإدارة أن تنتهي المفاوضات في غضون عام، وأنها ستبحث كافة قضايا الوضع النهائي، وتعيدنا مسألة العام إلى ما سبق وأن أكدت عليه غير مرة، وهو أن كل الحدود الزمنية قد انتهكت من قبل إسرائيل، وللأسف لم تكن تلك الحدود مبنية على أي فهم سليم لواقع الصراع أو موازين القوى القائمة فيه، فتسوية كامب ديفيد 1978 كان من المفترض أن تتم بعد خمس سنوات من توقيع إطار السلام في الشرق الأوسط في سبتمبر من ذلك العام، و"اتفاق أوسلو" كان من المفروض أن ينهي الصراع في عام 1999، وتصورت خريطة الطريق قيام الدولة الفلسطينية في 2005، وجاء مؤتمر أنابوليس 2007 ليؤجل موعد قيام هذه الدولة إلى 2008، ولم يحدث أي شيء في كل الأحوال. فلماذا يحدث هذه المرة؟ الواقع أنه يمكن أن تكون مفاوضات سبتمبر القادم استثناءً من كل ما سبق لو كان ثمة جديد، لكن الجديد في حالتنا يدفع إلى مزيد من التشدد الإسرائيلي الذي لا يمكن التوصل معه إلى تسوية متوازنة ناهيك عن أن تكون عادلة، فالرئيس الأميركي -على رغم الآمال التي أطلقها في بداية ولايته- أثبت أنه قابل كأي رئيس أميركي آخر للتراجع السريع عن كل ما يقول. والعرب إما مفتونون بهذه "الاستعراضات التفاوضية" أو معارضون لها دون بذل أي جهود لتطوير بديل لهذه المفاوضات، وإسرائيل تشهد أكثر الحكومات تطرفاً في تاريخها، والفلسطينيون منقسمون على أنفسهم بين غزة "حماس" وضفة "فتح"، بل إن أهل "فتح" ليسوا على قلب رجل واحد فيما يبدو بالنسبة لدخول المفاوضات المباشرة. فمن أين يأتي الجديد؟ يبقى أن الإدارة الأميركية تشير كجزء "مهم" من التطمينات المقدمة للفلسطينيين إلى دولة في حدود الرابع من يونيو 1967، و"الدفع" نحو تجميد الاستيطان، وإلى دور أميركي فاعل في هذه المفاوضات، وتصور أميركي نهائي لعملية السلام. ويؤكد جورج ميتشل مبعوث الرئيس الأميركي للشرق الأوسط أن الإدارة الأميركية ستقدم مقترحات "لتقريب وجهات النظر"، ولكنه لا يدع لنا مجالاً للفرح الغامر بهذا "التطور الجذري" في الموقف الأميركي الذي خدع العرب طويلاً، فيذكرنا بأن المفاوضات في التحليل الأخير "ثنائية". وبعبارة أخرى لا تتوقعوا أن تكون الإدارة الأميركية قادرة على أن تحقق تقدماً ما لم يكن طرفا المفاوضات قادرين على ذلك وراغبين في حدوثه. ومن الطريف أن بعض التقارير حدثتنا في هذا السياق (أي التقدم بمقترحات لتقريب وجهات النظر) أن الإدارة الأميركية قد عملت على بلورة صيغة في شأن الاستيطان لا تتضمن الإشارة إلى تجميده منعاً لـ"إحراج" نتنياهو! ترى كيف يكون الحرج الحقيقي عندما نأتي إلى المطلب الفلسطيني المشروع بتفكيك المستوطنات ذاتها، أو غير ذلك من المطالب؟ وقد برأت الإدارة الأميركية ساحتها في هذا السياق، فكرر ميتشل "نداءه" لإسرائيل بعدم استئناف البناء في المستوطنات. ويبقى بعد ذلك أن الطرف الفلسطيني كان قد اشترط لدخوله المفاوضات أن يكون بيان اللجنة الرباعية في مارس من هذا العام مرجعية للمفاوضات، وهو ما رفضته إسرائيل امتداداً لسلوكها المتطرف، ولعدم إراقة ماء الوجه أصدرت الرباعية بياناً يدعم المفاوضات المباشرة، ويدعو "الطرفين" إلى ضبط النفس، غير أن البيان لم يشر إلى بيان مارس 2010 الذي تضمن النص على قيام دولة ذات أرض متواصلة جغرافياً قابلة للحياة، إقليمها هو الأراضي التي احتلت في 1967، وتجميد النشاط الاستيطاني بما فيه النمو الطبيعي للمستوطنات، وتفتيت البؤر الاستيطانية غير القانونية (وكأن الاستيطان قانوني أصلاً). ويؤكد بيان مارس 2010 أن القدس الشرقية ستكون موضوعاً للمفاوضات، مذكراً بأن "المجتمع الدولي لا يعترف بضمها لإسرائيل". وتظهر النظرة المقارنة بين بيان الرباعية الأخير الذي "حلّل" المفاوضات المباشرة وبيان مارس 2010 بمضمونه السابق كيف أن هذه الرباعية أداة بيد الولايات المتحدة تحركها متى شاءت. وأخيراً وليس آخراً حرص الطرف الراعي للمفاوضات، أي الإدارة الأميركية، على أن يؤكد ألا دور لـ"حماس" في هذه المفاوضات، وهو أمر بديهي لكن ما لا يفطن إليه هؤلاء هو أن هذا يعد سبباً رئيسيّاً للفشل المتوقع للمفاوضات، بالإضافة إلى الأسباب الأخرى المألوفة كالتشدد الإسرائيلي واختلال ميزان القوى. وحتى بافتراض أن المفاوضات قد أثمرت في هذا الاتجاه أو ذاك ينبغي أن يكون واضحاً في كل الأحوال أنها مفاوضات حول مستقبل الضفة الغربية وليس مستقبل فلسطين بأسرها، أما نحن فليس أمامنا إلا مشاهدة الفيلم غير المشوّق للمرة العاشرة ونحن نعرف تفاصيله ونهايته سلفاً.