ثار الكثير من اللغط في أميركا بعد الموافقة في نيويورك على طلب مجموعة إسلامية أميركية تضم في مجلس إدارتها مسلمين مشهود لهم بالاعتدال، ومسيحيين ويهوداً، بناء مركز ثقافي إسلامي تحت اسم "بيت قرطبة" على بعد خطوات من موقع "جراوند زيرو" مكان تفجير برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك في هجمات 11 سبتمبر التي خلفت 3000 قتيل. والمركز الذي يكلف مئة مليون دولار، يضم مسجداً، وملاعب رياضية ومسرحاً ومطاعم وقاعة اجتماعات متعددة الأنشطة تتسع لخمسمائة شخص، وقد أثار موجة من الرفض والانقسام السياسي حول أحد أهم الأركان الدستورية التي قامت عليها الأمة الأميركية وهو حرية المعتقد والممارسة الدينية. ولا شك أن هذا الجدل مفتعل ومعيب في دولة قامت على احترام الأديان والمعتقدات، وظل دائماً يشعر فيها أصحاب الأديان المختلفة بالحرية والمساواة. وقد ساعد كون الولايات المتحدة أمة من المهاجرين من مختلف الأعراق والأديان في منح المسلمين هامشاً أكبر لممارسة شعائرهم وصلواتهم، وللنساء بارتداء الحجاب والنقاب دون التعرض للترهيب الذي تشهده أوروبا مثلاً، حتى جاءت اعتداءات 11 سبتمبر لتضع ملايين الأميركيين المسلمين في قفص الاتهام و"الإدانة" دون محاكمة، وأتى قانون "الوطنية" والتشدد، وتواتر الاعتداءات على المسلمين باللفظ والإهانة، ليغير كل ذلك الواقع للأسف. إن واقع المسلمين الأميركيين اليوم وتفشي التعصب ضدهم يختصره الصراع حول بناء هذا المركز الإسلامي في نيويورك. والصراع والخلاف ليس على المسجد والمركز في حد ذاته، بقدر ما هو على مكانة ودور الإسلام في أميركا بصفة عامة. وقد سبق ذلك رفض عشرات الطلبات لبناء مساجد ومراكز إسلامية في شتى الولايات الأميركية تحت حجج واهية، وأتت الاعتداءات بالقول والتهديد، وبرمي قاذورات وكتابات مسيئة على جدران المساجد. والحال أن الجدل حول حق المسلمين في بناء مركز إسلامي كشف بالفعل عمق الفجوة بين التنظير والتطبيق. فعلى رغم تأكيد أوباما بجذوره المسلمة أن أميركا "ليست في حرب ولن تكون في حرب مع الإسلام"، إذا بمسلمي أميركا لا تصلهم تلك الرسالة ولا يعيشونها في ظل الاستهداف والتضييق عليهم تحت ذرائع مختلفة تصل إلى هواجس المخاوف من الإرهاب والإرهابيين. وبعد أكثر من قرن على هجرة المسلمين إلى بلاد "العم سام" ومع ولادة الجيل الثالث من الأميركيين المسلمين، باتت حاجاتهم وأصواتهم ومطالباتهم بحقوقهم أكثر جرأة وحضوراً في النظام الاجتماعي والسياسي، برفضهم التمييز العنصري والديني ضدهم، وتأكيدهم على حقوقهم كمواطنين أميركيين كاملي الأهلية. وتراهم اليوم يتصدون بقوة عبر مؤسساتهم الإسلامية واستخدامهم لما يوفره النظام الأميركي من حقوق دستورية، للدفاع عن حقوقهم ومراكزهم الدينية، والتصدي للتهديدات. لقد ساهم الترهيب والتشدد ورفض منح رخص بناء مساجد ومراكز إسلامية في طول وعرض أميركا، حيث إنه من أصل 23000 مركز ديني معظمها كنائس وكنس يهودية، لا تشكل المساجد والمراكز الإسلامية في الولايات المتحدة الأميركية سوى1% من مراكز العبادة تلك، هذا مع أن المجموعة المعنية تقارب ثمانية ملايين مسلم. فلا عجب إذن أن يشعر مسلمو أميركا بأنهم مواطنون من الدرجة الثانية، وأنهم لا يحظون بالمعاملة التي ُيعامل بها بقية الأميركيين، أي باعتبارهم أميركيين أولاً، ثم مسيحيين ويهوداً وبوذيين وغيرهم ثانيّاً. ولا شك أن واقعاً كهذا يُبقي الفجوة قائمة بين أميركا ومسلميها في الداخل، ويخلف أيضاً الكثير من الريبة والتشكيك في مواقف وعلاقة أميركا الملتبسة والمرتبكة والمتقلبة مع العالم الإسلامي ودوله السبع والخمسين وسكانه الذين يقدرون بخُمس البشرية. وبذلك تبقى خطوط الصدع والمواجهة مفتوحة بين الطرفين بعد أن ضربت الإسلاموفوبيا أميركا وعبرت إليها من أوروبا بصور الكاريكاتور المسيئة وحظر المنارات ومنع المساجد والتشدد حول النقاب وغيرها من الممارسات التي تستهدف الإسلام ومعتنقيه. والملفت في هذه المواجهة هو التسييس المقيت وتحول بناء المركز الإسلامي إلى مادة تلقفتها القيادات السياسية في سنة انتخابات حاسمة تتراجع فيها فرص حزب الرئيس أوباما في المحافظة على الأغلبية في الكونجرس. ولذلك بدأت الحملة المعادية لبناء المسجد وترهيب من يقف مع حق المواطنين المسلمين الأميركيين المعتدلين الذين يريدون بناء المركز بالقرب من مكان الاعتداءات الإرهابية ليثبتوا أن المسلمين يرفضون اختطاف وارتهان الإسلام لأقلية لا تمثل السواد الأعظم من المسلمين، وليكون المركز الإسلامي عامل تعايش وتسامح ورمزاً لتعاليم الإسلام السمحاء. ولم تنفع مساعي الرئيس الأميركي أوباما وخلفيته المسلمة وسعيه "لبداية جديدة مع المسلمين" كما ورد في خطابه في القاهرة العام الماضي أو في كلمته في حفل الإفطار الرمضاني في الأسبوع الأول من رمضان في البيت الأبيض للقيادات الأميركية المسلمة وللسفراء المسلمين المعتمدين، بقوله: "أعتقد أن المسلمين يملكون الحق في ممارسة شعائرهم الدينية، شأنهم شأن أي شخص آخر في هذا البلد. وهذا يتضمن الحق في بناء مكان للعبادة. التزامنا حرية المعتقد يجب أن يكون ثابتاً. والمبدأ القاضي بأن الأشخاص من كل المعتقدات مرحب بهم في هذا البلد ولن يتم التمييز في معاملتهم من جانب حكومتهم، أمر ضروري لما نحن عليه". وبذلك، أخذ أوباما موقفاً شجاعاً يُشكر عليه في قضية مسيسة ومثيرة للجدل. ولكن أوباما للأسف سرعان ما تراجع عن ذلك الموقف بعد تعرضه لحملة شرسة من "الجمهوريين" والمحافظين وحتى من بعض أعضاء حزبه من "الديمقراطيين"، شارحاً أنه "لم يكن يُعلق على الحكمة من بناء المركز الإسلامي في نيويورك". وبسرعة بدأت الهجمة ضده شخصيّاً عبر كتابات ناقدة عن تقلبه، وبهدف التشكيك في فرص فوز حزبه، وحتى فرص فوزه هو بفترة رئاسية ثانية في ظل استطلاعات رأي تؤكد تراجع شعبيته في الداخل الأميركي، وتنامي الغضب والإحباط ضد الولايات المتحدة في الخارج وخاصة في الدول المسلمة. فيما لاذ معظم الساسة "الديمقراطيين" بالصمت المخزي ولم يعلقوا أو يعبروا عن اختلافهم مع الرئيس حول حق المسلمين في بناء مركز قيل إنه يستفز بعض الأميركيين وأسر الضحايا! وتزامناً مع اقتراب الذكرى التاسعة لتفجيرات 11 سبتمبر، وبسبب "وجود جو متنام من العداء للإسلام" ولأول مرة في أميركا طلبت جمعيات مسلمة من الشرطة تشديد تدابيرها الأمنية، لتفادي أية أعمال عدائية ضد المسلمين. وخوفاً من زيادة وتيرة الاحتجاجات المعادية للإسلام قرب المساجد والمراكز الإسلامية وخاصة قرب موقع المركز الإسلامي في نيويورك. وكانت كنيسة في فلوريدا قد دعت لتنظيم يوم دولي لـ"إحراق القرآن"، في الذكرى التاسعة لاعتداءات 11 سبتمبر 2010. سيبقى التحدي والامتحان الحقيقي للغرب وللولايات المتحدة في العلاقة المرتبكة مع العالم الإسلامي ومسلمي الغرب، في نظرة تلك الأنظمة وخاصة النظام الأميركي الذي يريد التصالح مع خمس البشرية ومع مسلميه سيبقى كامناً في معاملة أقلياته المسلمة التي تتزايد عبر جيل ثالث يرفض الخنوع وغض النظر كما فعل أجداده وآباؤه المهاجرون. ومن حق مسلمي الغرب أن يسألوا: هل هم مسلمون أولاً وأميركيون ثانياً؟ أم هم مثل بقية الأميركيين والأوروبيين، أميركيون وأوروبيون أولاً ثم مسلمون ثانيّاً؟ وطالما بقي هذا الجدل والتمييز الديني قائماً ومسيساً لأهداف ومآرب أخرى، فإن الخلاف والكيل بمكيالين والفجوة ستبقى قائمة ومعها الشعور باستهداف الإسلام. وسيبقى شبح صِدام الحضارات بين الغرب والإسلام قائماً على رغم وجود رئيس أميركي للمرة الأولى من جذور إسلامية، ويحمل اسم باراك حسين أوباما.