في وقت مبكر من صباح الخميس، وقبل أقل من أسبوعين على الحادي والثلاثين من أغسطس الذي حدده أوباما موعداً لإنهاء العمليات القتالية الأميركية في العراق، عبرت كتيبة "سترايكر" الرابعة الحدود من العراق إلى الكويت. وبرحيل هذه الكتيبة المقاتلة الأخيرة، تقلص الوجود العسكري الأميركي في العراق اليوم إلى 50 ألف جندي، وهو أصغر عدد للجنود الأميركيين في العراق مقارنة مع أي فترة منذ غزو 2003. ويشكل هذا التحول مناسبة جيدة لتقييم الحصيلة وبحث الأمور التي تحققت والأمور التي لم تتحقق بعد في ما أخذ يتحول بسرعة إلى حربنا المنسية. 1- اعتباراً من هذا الشهر، لم يعد للولايات المتحدة جنود مقاتلون في العراق... هذا ليس صحيحاً تماماً، ذلك أنه من أصل الـ50 ألف موظف عسكري تقريباً الذين بقوا في العراق، مازالت الأغلبية من الجنود المقاتلين – وكل ما حدث هو أنه أُطلقت عليهم أسماء أخرى. فالوحدات الرئيسية التي مازالت في العراق لن يُطلق عليها بعد اليوم "فرق الكتائب المقاتلة"، وإنما "كتائب المساعدة والاستشارة". ولكن الزهرة وإن قُدمت تحت أي مسمى تظل زهرة، والاختلافات في بنية الكتيبة والموظفين تظل صغيرة جدا. وبالتالي، فإن الجنود الأميركيين في العراق مازالوا معرضين للخطر ربما، لأنهم سيرافقون الوحدات العراقية في مهمات قتالية – حتى وإن اقتصر دورهم على "تقديم المشورة" - كما أن الطيارين الأميركيين سيقومون بمهمات قتالية جوية لدعم القوات البرية العراقية. ومازالت القوات الخاصة الأميركية ستتقابل مع المجموعات الإرهابية العراقية في عمليات خطيرة. ولذلك، فعندما يغادر الجنود الأميركيون قواعدهم في العراق، فإنهم سيكونون - دائماً تقريباً - مستعدين للقتال. أما الذي تغير خلال الاثني عشر إلى الثمانية عشر شهراً الماضية في العراق، فهو مستوى العنف الذي انخفض مستواه كثيراً: حيث كُبحت الحرب الأهلية وحركة التمرد، وهُمش الإرهابيون، واستطاع الجنود الأميركيون نقل أغلبية المسؤوليات القتالية المتبقية إلى قوات الأمن العراقية. ونتيجة لذلك، فإن معظم الجنود الأميركيين لا يتوقعون رؤية القتال في العراق اليوم، وأصبحوا يقضون وقتا أكبر في لعب دور جنود حفظ السلام، حيث يقومون بحماية الموظفين والمنشآت، وتقديم النصح والمشورة للفرق العراقية. ولكن ذلك لم يبدأ هذا الشهر: بل إن ذلك هو ما يقومون به تقريباً منذ انتهاء عمليات "الإخلاء والسيطرة" لاسترجاع البلاد من المليشيات والمتمردين في 2008. 2- بفضل الزيادة في عديد القوات الأميركية، بات العراق آمنا اليوم بحيث لن يسقط مرة أخرى في حرب أهلية بعد انسحاب القوات الأميركية، الحق أن الظروف الأمنية تحسنت كثيراً في العراق منذ أحلك أيام 2005- 2006، إلا أنه ما زال من غير المعروف ما سيحدث خلال الأشهر والسنوات المقبلة. البحوث المستفيضة في الحروب الأهلية الطائفية - مثل حرب العراق الأهلية حيث يدفع انهيار الحكم الطوائف المختلفة لمقاتلة بعضها بعضا من أجل السلطة – تجد ميلاً نحو الانتكاسية. وعلاوة على ذلك، فإن الخوف والغضب والجشع والرغبة في الانتقام التي ساعدت على دفع العراق إلى حرب أهلية أصلاً مازالت موجودة تحت السطح. كما تُظهر الدراسات الأكاديمية لعدد من الحروب الأهلية من القرن الماضي أن الحرب تندلع مرة أخرى في غضون خمس سنوات على وقف إطلاق النار في 50 في المئة تقريبا من الحالات. وإذا كانت لدى البلد موارد "قابلة للنهب" مثل الذهب أو الماس أو النفط، فإن الاحتمالات تزداد. غير أن النقطة المشرقة المهمة هي أنه إذا كانت قوة عظمى مستعدة للالتزام على المدى الطويل بلعب دور حافظ الأمن والوسيط (الدور الذي تلعبه الولايات المتحدة في العراق اليوم)، فإن معدل الانتكاسية يتقلص إلى أقل من واحد من ثلاثة، وهذا ما يفسر مدى أهمية التزام أميركي مستمر تجاه العراق. وتجدر الإشارة هنا أيضاً إلى أن حرباً أهلية لا تندلع لأن الجمهور يرغب فيها. فمعظم الناس يقرون بأن الحرب الأهلية كارثية؛ وكل ما هناك هو أن مثل هذه الحروب تندلع من جديد لأن الزعماء مازالوا يعتقدون أنه يمكنهم تحقيق أهدافهم بالقوة. وإلى أن يتم إقناعهم بالعكس – بواسطة جيش قوة عظمى مثلا – فإنهم يعودون للاقتتال. 3- الولايات المتحدة تترك وراءها نظاما سياسيا معطلًا. إذا أراد البعض على اليمين الادعاء (على نحو غير صحيح) بأن الزيادة في عديد القوات الأميركية في العراق قد أرست الاستقرار في هذا البلد إلى درجة أن حربا أهلية باتت مستحيلة، فإن نظراءهم على اليسار يحاولون التشديد (على نحو غير صحيح أيضا) على أن التغير في الاستراتيجية والتكتيكات الأميركية في 2007-2008 لم يكن له أي تأثير يذكر على الحياة السياسية العراقية. والواقع أن أنصار الحزبين سيناقشون تأثير "الزيادة" على مدى سنوات عديدة قادمة وسيواصل المؤرخون المعركة من بعدهم، غير أن الحياة السياسية العراقية باتت اليوم مختلفة اختلافا جوهريا عما كانت عليه في 2006، حيث أُرغم الزعماء السياسيون للبلاد على احتضان الديمقراطية – على مضض في حالات كثيرة، ولكنهم احتضنوها على أي حال. وهكذا، لم يعد زعماء الأحزاب يخططون لقتل خصومهم، وإنما للتفوق عليهم في الانتخابات. ولم يعودوا يستطيعون ترهيب الناخبين، بل باتوا مضطرين لإقناعهم. ثم إن الأذكياء منهم أدركوا أنه يجب أن يقدموا لناخبيهم ما يريدونه: حكامة فعالة، وظائف، خدمات مثل الكهرباء والماء الصالح للشرب. 4- إن العراقيين يريدون بقاء الجنود الأميركيين. أو يريدون رحيلهم. هذه القناعة يمكن الرد عليها بالقول إن على المرء أن يكون حذراً جداً حين التعاطي مع استطلاعات رأي الجمهور العراقي، وذلك لأن استطلاعات الرأي قلما تنتبه للفروق البسيطة التي تسمح بالتقاط الطابع المعقد لوجهات النظر العراقية. فعادة، تُظهر هذه الاستطلاعات عدداً صغيراً من العراقيين الذين يريدون انسحاب القوات الأميركية فوراً بأي ثمن، وعدداً صغيراً يريدها أن تبقى إلى الأبد، وأغلبية كبيرة في الوسط – مصممة على انسحاب الجنود الأميركيين، ولكن فقط بعد فترة معينة من الوقت. وحين يُسأل العراقيون بخصوص كم من الوقت ينبغي أن يبقى الجنود الأميركيون في العراق، فإن أجوبتهم تتراوح من بضعة أشهر إلى بضع سنوات، ولكنها تكون مرتبطة ارتباط قوياً بكم من الوقت يعتقد المستجوَب أن القوات العراقية تحتاجه لتحمل المسؤولية الأمنية بمفردها. والواقع أن المرء يسمع الشيء نفسه عادة من الناس عبر العراق وعبر طبقاته الاجتماعية والسياسية. فالعراقيون وطنيون، ويكرهون الوجود العسكري الأميركي. كما أن العديد منهم يشعرون بالمرارة بسبب الفوضى التي تسببت فيها الولايات المتحدة عبر الغزو، ثم فشلها في تأمين البلاد أو الشروع في عملية إعادة إعمار شاملة، وهو الفشل الذي أفضى إلى حرب أهلية في 2005- 2006. ويشعر معظم العراقيين بالارتياح لأنهم أُنقذوا من تلك الحرب ويخشون أن تستأنف بعد أن يرحل الأميركيون؛ وذلك لأن قواتهم الأمنية مازالت لم تُختبر بعد، وعمليتهم السياسية لم تُظهر بعد النضج الذي يبعث على الثقة بين العراقيين بأنهم آمنون من تهديد الحرب الأهلية. ونتيجة لذلك، فإن عددا كبيرا من الناس مصممون على رحيل الأميركيين - وخائفون منه في الوقت نفسه. كنيث إم. بولاك مدير مركز سابان لسياسة الشرق الأوسط بمؤسسة بروكينجز الأميركية ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست"