رحل غازي القصيبي... إنه بطل من أبطال العصر الذي كان، ورحلت معه حقبة تاريخية امتلأت حتى فاضت بالحكايات والأحداث والشخوص. وربما تأتي للرجل فرص التفوق الإداري والأدبي في آن معاً، وهذا هو أمر نادر لدى أصحاب النجاحات، فقلما نجد شخصاً يتفوق في الاثنين أي في الإدارة و الأدب. ولمن يريد أن يتعرف على هذا الرجل، عليه أن يقرأ روايته "شقة الحرية".. العقل الأدبي الأصيل الذي أرَّخ لمرحلة تاريخية كانت تموج بالانتصارات والهزائم والأسماء البراقة في عالم السياسة والاقتصاد والأدب. ففي شقة الحرية يروي القصيبي قصته مع ثلاثة من زملائه، ذهبوا للقاهرة للدراسة الجامعية، وكانت القاهرة آنذاك تزخر بزمن ذهبي، فقد كانت أم كلثوم تصدح بفن عذب وخطب عبدالناصر تترى منادية بالعزة العربية.. ونجيب محفوظ وغيره ممن تألقوا في ذاك الوقت. تجربة الكاتب آنذاك أسست لشخصية مختلفة سيكون لها مستقبل حافل بالمنجزات والكتب. بالتأكيد كانت معطيات الزمن آنذاك مختلفة لأنها فترة حراك سياسي وثوري، أعطى فرصاً لم تتكرر للتألق لمثل القصيبي وغيره من الأذكياء الذين عرفوا كيف يؤسسون لأسماء حفرت مكانها في التاريخ. والتساؤل اليوم: من سيخلف هؤلاء، في أي زمن وأي ظرف سيأتي من يشبه قصصهم البطولية ذات الفكر التحرري، والقادر على اجتراح اللاممكن؟ فجيل التكنولوجيا لا ينقصه الذكاء أو الحكمة أو المعرفة، إن أبناء هذا الجيل ينقصهم فقط الوعي الفكري، الذي يحاول البعض اليوم محاصرته والتضييق عليه بشتى السبل. فبالضرورة أمثال القصيبي كثر... وربما تفوقوا عليه في أكثر من منحى، ولكن هل نعرفهم؟ هل ستتاح لهم فرصة الظهور والتألق والاختلاف؟ من يصدق أن الجيل الذي احتفى بالقصيبي وأشباهه لم يستطع أن يحتفي بغيره؟ فالغريب أن حرية الفكر والوعي آنذاك كانت متاحة بصورة أعمق من اليوم وأكثر نضجاً وتأثيراً. فالحصار اليوم على العقول شديد، دون مبرر حقيقي، لذا يكمن الخوف من أمر كبير سيؤثر على سير الأحداث ذات يوم وسيكتب تاريخاً جديداً حتى وإن كان النظام يرفضه ويسعى إلى إزالته قبل أن يطفو على سطح الاختلاف. لا تعجز الأمة عن إنجاب أصحاب الكلمات النافذة، واليوم تبدو السماوات متاحة أكثر من قبل في سفر الأفكار وتداولها، ولكن ما نسعى إليه هو صناعة رجال لهذا الزمان يحفظون ماء وجوهنا من ذل الانتظار للتغيير القادم حتماً. فالاستثمار في شخصيات تتوازى مع القصيبي وغيره، هي الهم الأساسي المفترض... فقد سئم الرأي العام في العالم العربي من بعض الشخصيات المسكونة بهاجس النفعية. إن رحيل مثقف كالقصيبي يثير الحزن في النفوس عليه وعلى تاريخه الذي كان جزءاً من تاريخ منطقة بأكملها، ويستحق أيضاً أن ننفذ أحلامه بأن يكون هناك أبطال لهذا الزمان يعيشون في مأمن من عذاب الرقابة والحصار مثلما عانى هو. رحمَ الله القصيبي.. ورحمنا معه وعوضنا عنه بعشرات من رجال يصنعون التاريخ بفعل مؤطر بالشرف والنجاح.