لاشك أن ما حدث في الرابع من نوفمبر 2008 يدعو للذهول والدهشة، إذ على رغم الصعوبات الاقتصادية القاسية وانتفاء الشعور بالأمان قرر الناخبون الأميركيون الذهاب إلى صناديق الاقتراع ليختاروا الأمل على الخوف وليوصلوا أوباما إلى البيت الأبيض ليكون أول رئيس أسود في البيت الأبيض. ومرد هذا الذهول، بالنسبة لي شخصيّاً على الأقل، أنه على مدار دراستي الأكاديمية للمجتمعات التي تعاني من صعوبات وتمر بأوضاع اقتصادية غير مستقرة لاحظتُ أنها عادة ما تأتي استجابتها في ظل تلك الظروف على شكل حركات اجتماعية تتقوقع على نفسها بدافع من الخوف والشعور بالاضطراب منسحبة وراء خطاب شوفيني ضيق ومعادٍ للأجانب، كما تبادر بالحنين إلى ماض متخيل تمجده، مبالغة، في ذات الوقت، في تصور تهديدات محدقة سواء كانت حقيقية، أو مفترضة. ومن النادر لمجتمع تعرض لهجوم قاس على أراضيه كما حصل للولايات المتحدة في الحادي عشر من سبتمبر 2001 وخاض حربين لم يتضح مآلهما بعد، فضلاً عن فقدانه الثقة بمؤسساته الاقتصادية ما أدى إلى درجة كبيرة إلى تراجع ازدهاره وتزايد معدلات البطالة في صفوفه، أن يستدعي قيمه الإيجابية ويتمسك بمبادئه الديمقراطية والمتسامحة. وهذا فعلا هو ما أظهره المجتمع الأميركي الذي زادته الصعوبات تشبثاً بالمثل التي تأسست عليها الجمهورية. ولكن من المؤسف حقاً أن نرى اليوم عودة جديدة للخوف ومعه تراجع مساحة التعقل والحكمة التي طبعت الفترة السابقة على الأقل في ردة فعل المجتمع وبعض قواه تجاه المسلمين، فعلى مدى فترة السنة ونصف السنة الماضية شاهدنا كيف تلبس الخوف أشكالا مختلفة مع تصاعد هجوم المعارضين لأوباما وزحفه على جبهات متعددة من تشكيك في ديانة الرئيس والغمز بأنه مسلم والتقول على جنسيته ومكان مولده وأصوله الحقيقية، ثم اتهامه بنشر "الاشتراكية" و"الماركسية"، مروراً بانتقاد إصلاح نظام الرعاية الصحية، وليس انتهاء بالهجوم على المهاجرين غير الشرعيين والدفع إلى إنكار حق الجنسية على أبنائهم، وصولا اليوم إلى الهستيريا الجماعية المستهدفة للمسلمين على خلفية بناء مسجد ومركز إسلامي. وفي هذا السياق يمكن فهم المعارضة التي يبديها البعض ضد بناء مركز إسلامي ومسجد بالقرب من مركز التجارة العالمي، فهي ليست مجرد احتجاج على بناء مسجد في مكان معين، بل هي فصل من فصول حملة متصاعدة تستغل الخوف من خلال استدعاء الشعور بعدم الأمان ونكء جراح قديمة! والمشكلة ليست في المسجد الذي سيبنى في مكان شهد هجمات 11 سبتمبر، بل في التوظيف السياسي لبناء المسجد من قبل الجناح اليميني داخل الحزب "الجمهوري" الذي تزعَّم حملة التشويه والتخويف لتنتقل حمى المعارضة إلى باقي السياسيين حتى في الجانب "الديمقراطي" بعدما خرج زعيم الأغلبية "الديمقراطية" في مجلس الشيوخ، هاري ريد، على الملأ ليعلن تحفظه على إقامة مركز إسلامي في المكان المخصص له حتى بعدما وافقت السلطات المحلية في مانهاتن بنيويورك على منح التراخيص اللازمة للمضي قدماً في بناء المركز والمسجد، وقد تصاعدت الحملة في الأيام الأخيرة لتصل إلى مستويات غير مسبوقة من الكراهية والكلام المخل بعدما طالت الإسلام وحولته من دين سمح يشترك مع الأديان الأخرى في الدعوة إلى السلام إلى أيديولوجية متعصبة، وقد كان لافتاً على وجه الخصوص اللغة التي استخدمها بعض السياسيين في وسائل الإعلام والتي تنضح تعصباً وانغلاقاً على الذات وكـأننا في بلد غير أميركا التي ينص قانونها المؤسس على احترام الحرية الدينية وضمان ممارستها دون تضييق. واليوم بسماعنا للكلمات واللغة التي يستخدمها بعض قادة الحزب "الجمهوري" في الهجوم على الإسلام وتوظيف موضوع بناء المسجد سياسيّاً لدغدغة العواطف وربح الأصوات في الانتخابات النصفية المقبلة ندرك تنكر هؤلاء وتضحيتهم بقيم التسامح والتعقل والتبصر وتحويل قضية بسيطة إلى حملة وطنية لا لشيء إلا لتحقيق مكاسب سياسية وللظهور بمظهر المدافع عن مشاعر الناس وحساسيتهم، وهم بذلك يمدون التطرف والأصوات المتشددة حول العالم بما يلزمها للتنديد بالنفاق الأميركي والمعايير المزدوجة في التعامل مع الإسلام والمسلمين بعدما أصبحت قضية بناء مسجد، لا تستحق أصلا كل هذا التهويل، حملة طويلة عريضة ممنهجة لتشويه الإسلام والنيل منه، لاسيما بعدما أُفسح المجال على شاشات التلفزيون لبعض الأصوات المتطرفة الغوغائية في اليمين الأميركي التي راحت تنفث سمومها دون رقيب، أو حسيب، مهددة بذلك اللحمة الوطنية والانسجام المجتمعي. وبتصعيد اللهجة ضد الإسلام وبناء المسجد يعمل اليمين على استغلال وتأجيج مشاعر الخوف لدى بعض الأميركيين المتضررين من الأزمة الاقتصادية متناسيّاً أثر ذلك على صورة أميركا في العالم ومكانتها وعلاقاتها المتميزة مع العالم الإسلامي بعد المحاولات الحثيثة التي بذلت للتقرب إلى المسلمين وتهدئة مخاوفهم من السياسات الخارجية الأميركية. وقد لا نبالغ إذا قلنا إن الحملة الحالية المناهضة للمسلمين تتجاوز في تأثيرها السيئ على سمعة أميركا فضحية سجن أبو غريب ومعتقل جوانتانامو مجتمعين. وما نحتاجه اليوم لتجاوز هذه اللحظة المخجلة من تاريخنا هو الرد على أمثال "جنجريتش" و"بالين" و"وكورينز" وغيرهم ممن أساءوا إلى المسلمين في الفترة الأخيرة، والتأكيد على قيم التسامح والانفتاح باعتبارها قيماً أميركية تشمل المواطنين جميعاً مسلمين وغير مسلمين.