من يُتابع البرامج التليفزيونيّة، يجد أن كثيراً منها صار يصبُّ في حكايات السحر والحسد وعالم الجن. هذه البرامج تملك نسبة مشاهدة عالية، وبالتالي فهي تحظى بدعم من إدارة القناة لارتفاع حجم الإعلانات التي تُعرض خلال بث البرنامج. ولم يعد الأمر مقتصراً على هذه النوعيّة من البرامج، بل تعدتها إلى مسلسلات تدور تفاصيلها المثيرة حول هذه العوالم الغامضة. طرح حكايات السحر والشعوذة وعالم الجن ليس جديداً على فنوننا، وهناك أفلام قديمة من الأبيض والأسود تطرّقت هي الأخرى لهذه العوالم المشوّقة، مأخوذة عن قصص ألف ليلة وليلة على لسان بطلة فن الحكي شهرزاد. لا شك أن الشعوب العربية، هي أكثر شعوب الأرض تصديقاً للخرافات! وهذا لا يعني بأن الحسد والسحر وعالم الجن لا وجود لها على أرض واقعنا، بل هي متغلغلة في تراثنا الديني، ومذكورة في الآيات القرآنيّة وفي الأحاديث النبويّة. وهذه الظاهرة التي بدأت مع الخلط بين الحقيقة والتخيّل، وبسبب التساهل والتعامل معها كنوع من المسلمات، أدّى إلى سيطرتها على حياة الناس اليوميّة، وخضوعهم لها دون إعمال عقولهم فيها. حضرتُ في طفولتي الكثير من جلسات "الزّار"، كان هذا يحدث في أجواء القاهرة وخارجها، عندما كنتُ أقضي مع أبويّ أشهر الصيف فيها، لحرص أمي على زيارة أهلها كل سنة، حيثُ تعود أصول والدتي إلى قرية صغيرة من قرى الريف المصري الجميلة. لم أكن حينها أفقه المغزى من وراء إقامة هذه الجلسات، ولم أكن أفهم ما يجري فيها، ولم أجد أجوبة لأسئلة كثيرة كانت تدور وقتها بعقلي الصغير، لكنني أعترف صراحة بأنني كنتُ مبهورة بمناخها الروحاني، فكنتُ ألاحق بعينين فضوليتين سيدات وفتيات وهن يدرن في حلقات جماعيّة داخل غرفة فسيحة، مرددات عبارات لم أكن أتبيّن مفرداتها حتّى يسقطن في النهاية من الإعياء والتعب. ويتم لحظتها ذبح ديك، يتركن دمه الفائر يتقاطر على رأس المريضة المُراد تحريرها من لعنة المرض أو المس. يُقال بأن أصل "الزّار" من الحبشة، كما يرى بعض الباحثين أن "الزّار" طقس وثني عُرف منذ القرن التاسع الميلادي، وهي كلمة مشتقة من كلمة "دجار" وتعني "روحاً شريّرة" أو "زائر النحس". وهناك من يُردد بأنه فرعوني، انتقل بدوره من مصر إلى عدد من الدول العربية ما زال "الزّار" إلى اليوم يُشكّل أهمية كبرى بمجتمعاتها، يلجأ إليه الناس للشفاء من أمراض مستعصية عجز الطب عن إيجاد علاج لها. حفلات "الزّار" تُشرف عليها إحدى الشيخات، وهي مهنة تتوارث في أسرتها. وتستمر جلسات "الزّار" أياما وقد تمتد إلى أسابيع، إلى أن تُعلن الشيخة تماثل مريضتها للشفاء من العين أو في تحريرها من الجنّي الذي كان يتلبّسها. عدد من الأدباء العرب بهرهم عالم الجن والسحر، وطرحوا قضية "الزّار" في قصصهم ورواياتهم لفضح هذه الخزعبلات ووجوب أخذ الحيطة من مردوداتها، مع هذا أقرُّ بأنني كنتُ أجد متعة في حضور هذه الحلقات في الماضي، بل ولا أجد حرجاً من القول بأنها ساهمت في إثراء خيالي لاحقاً عند دخولي دنيا القصص. لم أحضر منذ سنوات طويلة حلقات "زار"، مع أنها لم تزل متوغلة في فكر الكثيرين من مختلف الطبقات، ورغم أن البعض بمجتمعاتنا العربية يأسرهم هذا العالم الزاخر بالإثارة والتشويق، أحياناً أسأل نفسي متعجبّة: كيف يحدث هذا التغييب العقلي مع الإنجاز العلمي الهائل بمجال الطب، ومع الانتشار المذهل لثورة المعرفة؟!