"أسمنت الجابون" كان هذا لعقود عديدة، اسم المصنع الوحيد لإنتاج الأسمنت الذي عرفته دولة الجابون الاستوائية المطلة على المحيط الأطلسي. وكان هذا المصنع عبارة عن احتكار وطني ينتج ما يقرب من 250 ألف طن من الأسمنت سنوياً، يتم تعبئتها في أكياس ذات لونين بيج وأزرق، تباع لتحقق للحكومة دخلا يمكنها من بناء المباني السكنية المرتفعة والمباني الحكومية ذات الشكل الهرمي المدرج التي تزين شوارع عاصمتها ليبرفيل. كان هذا قبل أن يأتي زمن الأسمنت المستورد من الكاميرون، وكازاخستان، وتركيا، والصين. وأمام هذا الغزو، اضطر مصنع "أسمنت الجابون" إلى إغلاق القمائن التي يتم فيها إنتاج الأسمنت تمهيدا لإغلاق أبوابه، والتوقف عن العمل ـ ربما للأبد. يشرح "أرثر ميكا مي ندون" مدير التطوير في المصنع، السبب في ذلك فيقول:" إن الأسمنت الصيني يباع بأسعار لا تتيح لنا الفرصة للمنافسة". وأضاف قائلاً: نحن نُصنّع الأسمنت تلك المادة المكونة من الجير المخلوط بالطمي، الذي وعلى الرغم من كونها مادة عادية، إلا أنها في الحقيقة تشكل القوام الرئيسي للصناعات الأفريقية الناشئة، كما أنها المادة التي تبنى بها البيوت والمساكن، وهي أيضا المادة التي جعلت من البعض أصحاب ملايين في دول أفريقية مختلفة. وعلى رغم أن هذه السلعة تفتقر إلى ذلك البريق المميز للماس، أو تلك الأهمية الجيوبوليتيكية التي يتمتع بها النفط، إلا أنها تشكل المادة الأساس لما يمكن لأفريقيا أن تحقق به انفجارها الصناعي الكبير. لإدراك مدى أهمية المادة ما علينا سوى مراجعة الإحصاءات التالية: في نيجيريا ارتفعت أرباح شركة "أشاكا للأسمنت" بنسبة 42 في المئة في النصف الأول من هذا العام، كما تضاعفت أرباح شركة "بينيو" القريبة منها ثلاث مرات، لتصل في العام الماضي إلى 95 مليون دولار. وفي العام المقبل، يتوقع أن يرتفع إنتاج نيجيريا من الأسمنت بنسبة 50 في المـئة، وهو ما يرجع لأن تجمعها الاحتكاري المعروف، والذي يعد الأكبر في البلاد، وهو" دانجوت للأسمنت" من المرجح أن ينفق ما قيمته 1.5 مليار دولار من أجل بناء مصانع للأسمنت سواء في نيجيريا، أو في سيراليون. في الوقت الراهن هناك مصانع لا تقل قيمة الواحد منها عن 100 مليون جنيه يجري إقامتها على عجل في تونس وكينيا والمغرب، وزامبيا، وإذا اتجهنا جنوباً، فسوف نجد أن هناك مصنعا ضخما في موزمبيق وهو مصنع "سيمنتوس دو موزامبيق" يخطط لمضاعفة إنتاجه خلال العام 2011، وإذا اتجهنا شمالًا فسنجد أن صادرات الأسمنت من السنغال، قد تضاعفت الشهر الماضي. ومعدل ارتفاع أسعار الأسمنت جيد للغاية أيضاً: فالطن المتري في توجو يباع بـ200 دولار وهو ما يمثل عنصر إغراءً قادرا على جذب سفن شحن الأسمنت من موانئها البعيدة. وهذا جزئياً هو الذي يدعو البعض للقول إن نهاية عصر مصانع الأسمنت المزدهرة في أفريقيا، يتم وضع تفاصيله من خلال خطط ترسم في هونج كونج. وجمهورية الصين الشعبية، التي تتمتع بتواجد صناعي في مختلف أنحاء القارة الأفريقية، تفرغ في الوقت الراهن كميات كبيرة من الأسمنت الزائد عن حاجتها في الأسواق الواعدة مثل الجابون. وفي الوقت الذي تقل فيه الكميات المنتجة من مصانع الأسمنت السنغالية، بسبب التزامها الصارم بمعايير الجودة المعمول بها في الاتحاد الأوروبي، نجد أن أكياس الأسمنت الصيني الأرخص سعراً والأقل التزاماً بالمعايير والأقل جودة تتدفق على الموانئ الأفريقية أثناء مؤتمر عقد في داكار في شهر مارس الماضي ضم منتجي الأسمنت الأفريقيين قال لي "دانييل كاماراسا جيمينو" المدير العام لشركة كاجيسكس العالمية للتجارة:"خلال عشر سنوات من الآن سوف يسيطر الصينيون على سوق الأسمنت هنا" ثم استطرد قائلا:" إن نوعية الأسمنت الذي ينتجونه سعرها جيد". لا ينطبق هذا على الأسمنت فحسب، وإنما على الأقمشة والأحذية والكنبات التي تنتجها الصين، والتي أضرت بصناعة النسيج، وصناعة الجلود، وصناعة الأثاث في القارة الأفريقية. بيد أن صناع الأسمنت وغيره من المواد في أفريقيا، يتمتعون في الوقت الراهن بعدد من عناصر الحماية التي تفرضها الظروف الجغرافية والطبيعية منها: أولا، أن صناع الأسمنت الأفريقيين أخف حركة من نظرائهم الصينيين حيث يستطيعون نقل كميات صغيرة من الأسمنت بسهولة وسرعة إلى مختلف الموانئ الأفريقية أو حتى عبر البر إلى المدن المختلفة في حين لا يستطيع صناع الأسمنت الصينيون، أو غيرهم الذين تقع بلادهم على بعد آلاف الأميال ذلك. ثانياً: أن التنافسية الجيدة التي يتمتع بها الأسمنت الصيني ترجع في جزء كبير منها إلى نجاح الحكومة الصينية في إبقاء سعر صرف عملتها منخفضا وهو شيء لا يعتقد أنه سيستمر لمدة طويلة. وهناك حل أفضل من ذلك لإبقاء مصانع الأسمنت الأفريقية في حالة تشغيل وهو الطاقة الرخيصة. فيمكن للدول الأفريقية من خلال بناء بعض السدود المائية الضخمة ـ المبنية بالأسمنت الأفريقي الأكثر متانة ـ لتوليد ما تحتاجه صناعاتها من طاقة، أن تدعم تلك الصناعات وتبقيها في السوق، بدلاً من الاعتماد على شحنات رخيصة من الصناعات الأجنبية - الصينية أساساً - التي تنافس في النهاية تلك الصناعات. درو هنشاو داكار ـ السنغال ينشر بترتيب خاص مع خدمة" كريستيان ساينس مونيتور"