سادت خلال العقد الماضي ثلاث نظريات، تحولت إلى شبه مسلّمات لا ريب فيها عند النظر إلى السياسة الأميركية المعاصرة. أولاها الزعم بعدم اهتمام الشارع الأميركي بالشؤون العامة، قياساً إلى بقية شعوب العالم الأخرى. وثانيتها أن الحوار السياسي العام أصبح من الحدة والمرارة إلى درجة نفّرت معظم الناخبين. وثالثتها الاعتقاد بأن المماحكة السياسية بين الحزبين المتنافسين، الجمهوري والديمقراطي، صرفت اهتمام الناخبين في الدوائر الجغرافية بانتخابات الكونجرس، ما يرجح احتمال بقاء الأعضاء الحاليين في مقاعدهم دون مساس. لكن مؤلف كتاب "تلاشي الوسطية الأميركية"، ألان أبراموفيتز، وهو أستاذ بارز للعلوم السياسية، يتصدى لهذه النظريات الثلاث فينسفها من أساسها، بتأكيده انخراط الناخبين الأميركيين في العملية السياسية الانتخابية، وقدرتهم على استعادة الوسطية السياسية المتلاشية، وتصحيح مسار الممارسة الديمقراطية. ويمكن تلخيص الحجج الرئيسية التي يثيرها أبراموفيتز ضد النظريات السياسية المذكورة في ثلاث مقولات أساسية. فهناك تزايد ملحوظ في عدد المواطنين الأميركيين الذين يسهمون في العملية السياسية الانتخابية، وتزايد آخر ملحوظ في حدة الاستقطاب السياسي بين اليمين واليسار الأميركيين، أي بين المحافظين والليبراليين. وينعكس هذا الاستقطاب بدوره على الناخبين، جاذباً الكثيرين منهم إلى حلبته. ويسمي أبراموفيتز ظاهرة الاستقطاب هذه بالاستقطاب الحزبي الأيديولوجي. وبسبب اتساع نطاقه، فقد تقلص كثيراً عدد المستقلين والمعتدلين، مع ملاحظة أن هذه الفئة الأخيرة من السياسيين، أصبحت الأشد نفوراً وعزوفاً عن العملية السياسية كلها. تلك هي المقولة الأولى. أما المقولة الثانية، ففيها أنه خلافاً لهؤلاء الذين ينظرون إلى الواقع السياسي كما لو كان جزراً معزولة عن بعضها، يقول أبراموفيتز إن حدة الاستقطاب السياسي في أوساط النخبة السياسية الحاكمة، ليست سوى انعكاس للاستقطاب الحادث في أوساط الشرائح الاجتماعية الناشطة سياسياً من المجتمع الأميركي. فليس صحيحاً إذاً القول إن ظاهرة الاستقطاب هذه بدأت من قمة الهرم السياسي لتتنزل إلى وسطه وأسفله. فإذا ما نظرنا إلى حركة "حفلات الشاي" المحافظة، نجد أنها حركة شعبية قاعدية في الأساس، علماً بدورها الكبير في توسيع حدة الاستقطاب السياسي بين المحافظين والليبراليين. بذلك نصل إلى المقولة الثالثة والأخيرة؛ فخلافاً لمن يعتقد أنه كلما اتسع الاستقطاب وازدادت حدته، كلما ازداد انصراف أعداد أكبر من الناخبين عن العملية السياسية الانتخابية. وبذلك يؤكد المؤلف أن حدة الاستقطاب نفسها تجتذب إلى حلبتها أعداداً أكبر من عامة المواطنين، ما يعني زيادة انخراطهم في العملية السياسية، بدلاً من النفور منها. ويعدّ الكتاب برمته كما لو كان سجالاً ومناظرة مع الأفكار المحورية التي وردت في كتاب "الحرب الثقافية: أسطورة الاستقطاب السياسي في أميركا"، لمؤلفه موريس فيورينا. فالكتاب الأخير يصف شارعاً أميركياً غير مبال بالسياسة مطلقاً، أي أنه شارع محايد ولا صلة له بأي صراعات أو انقسامات أيديولوجية. ويرد أبراموفيتز على هذا الاعتقاد بالقول إن الشارع الأميركي ليس كتلة واحدة متجانسة، وإنه يتعدد كثيراً فيما يتصل بعلاقته بالنشاط الانتخابي وبالعملية السياسية في مجملها. ولعل انضمام أقسام أكبر من الناخبين، لاسيما الناخبين الشباب الذين مارسوا حقهم الانتخابي للمرة الأولى في انتخابات عام 2008 الرئاسية والتشريعية، خير رد عملي على هذه المزاعم الخاطئة. فقد انخرطت في حملة الرئيس أوباما أعداد أكبر من الشباب، بقدر ما شاركت فئات أكبر من ناخبي اليمين في حملة الحزب الجمهوري. ليس ذلك فحسب، بل اعتمد المؤلف في رده على رمي الناخبين الأميركيين باللامبالاة السياسية، على الدراسة التي أجريت لانتخابات عام 2004. فقد اتضح أن نسبة 85 في المئة من الناخبين انخرطت في نشاط من الأنشطة الانتخابية لذلك العام. وأشارت نتائج الدراسة نفسها إلى انخراط نحو 50 في المئة في فعاليتين انتخابيتين على الأقل، وانخراط 25 في المئة على الأقل في ثلاث أو أربع فعاليات انتخابية. ومما يثيره أبراموفيتز قوله إن الرئيس السابق بوش، كان له دور محوري في زيادة حدة الاستقطاب السياسي، واجتذاب أعداد أكبر من الناخبين. وهذا ما تدل عليه انتخابات عامي 2004 و2008. ومنذ ذلك الصراع، استمر تلاشي الوسطية السياسية الأميركية، ليحتدم الخلاف السياسي، ويبلغ أشده عقب انتخاب أوباما. وأوباما نفسه تحوّل من كونه ليبرالياً موحّداً لصفوف عامة الأميركيين، إلى شخصية استقطابية تسهم في شق الصفوف وتوسيع انقسامات في الشارع الأميركي. وليس من حل لهذه المعضلة، سوى استعادة الوسطية السياسية وإحياء تقاليد الثنائية الحزبية، وهما شرطان لا غنى عنهما لوحدة الصف الأميركي، وتمكين القوة العظمى في عالم اليوم من التصدي للتحديات الداخلية والخارجية التي تواجهها. عبدالجبار عبدالله ------- الكتاب: تلاشي الوسطية الأميركية المؤلف: ألان إي. أبراموفيتز الناشر: مطبعة جامعة يل تاريخ النشر: 2010