التصفيق، كلمة ذات إيحاءات ومعانٍ وممارسات متباينة عبر التاريخ وحتى يومنا الراهن، لكن الأشد إيلاماً في ثنايا هذه الكلمة وفي مكنوناتها المستترة، أنها في أيامنا المعاصرة أصبحت ظاهرة قهرية بامتياز، فحيثما وجدت استبداداً مستفحلا تجد تصفيقاً حاداً أو صامتاً، تصفيقاً يأخذ طابعاً قهرياً استسلامياً حتى في جانبه الوصولي. ويعد التصفيق سلوكاً قديماً، حيث تدل الحفريات والبحوث الآثارية على وجوده، وتشير النقوش المصرية إلى الأشخاص وهم يمارسون التصفيق بالترافق مع طقوس احتفالية. ويقول الدكتور عماد عبد اللطيف إن اليونان من أقدم شعوب الأرض التي مارست عادة التصفيق. وتذكر المصادر التاريخية ولع نيرون، طاغية روما، بالتصفيق. وقد انتقل التصفيق من شعب إلى آخر، فانتقل إلى العبرانيين من خلال الحضارتين الفرعونية واليونانية. وتعود علاقة العرب بالتصفيق إلى عصور قديمة، وقد استخدم في صدر الإسلام أداة للتشويش على المسلمين في بداية دعوتهم، فكانت مجموعات من القرشيين تلجأ إلى التصفيق للحيلولة دون إبلاغ الرسول دعوته الدينية إلى الناس. ثم شاع التصفيق في قصور الخلفاء والملوك والسلاطين والولاة، وكان تعبيراً عن قوتهم ومكانتهم، وكان ما بعد التصفيق يأتي بشيء مفاجئ غير معروف، فإما تأشيرة فرح وسعادة أو ترميزة قرح وحزن. وعند العرب إذا قام أحدهم بعمل ما يحتاج جهداً جماعياً ولم يفلح في إنجازه، يستشهد بالمثل: "اليد الواحدة لا تصفق"، في إشارة لحاجته إلى المؤازرة من قبل الآخرين. ومن طرائف التصفيق أنه عندما يلعلع صوت الخطيب أو المحاضر أو المغني تجتاح القاعة موجة تصفيق حادة، يشارك بها كل الحضور حتى الذين لم يسمعوه جيداً! وقد يكون التصفيق عملية غير بريئة، وهذا ما يبينه المثل الفرنسي: "يظل الطفل بريئاً حتى يتعلم التصفيق". كما أن كلمة التصفيق قد تحمل في ثناياها مدلولات وترميزات إلى ما يشبه الصفقة، وهذا ما كان يحدث عند اليونانيين وبخاصة في قاعات المسارح. وبالانطلاق مما سبق نجد أن التصفيق، وبصورة خاصة في الزمن المعاصر، يلعب دوراً قهرياً في المجتمعات الشرقية، وبصورة أكثر تخصيصاً في العالم العربي، فقد مرت شعوبه، لاسيما في مرحلة ما بعد الاستعمار المباشر، بمراحل ساد فيها التصفيق الآلي الصاخب والقوي، والذي جاء بفعل العاطفية والشعارية والتجييش. فظهر التصفيق للزعماء بعد احتلال فلسطين والحروب التي خاضها العرب في أعوام 48، 67، 73، 82، علاوة على غزو النظام العراقي للكويت عام 1990، وقبله الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988)، ثم غزو العراق (2003)، وحرب تموز (2006). محمود حواس كاتب سوري ينشر بترتيب مع مشروع "منبر الحرية"