أثار وزير الدفاع الأميركي "روبرت جيتس" دهشة العديدين، عندما أعلن في التاسع من أغسطس أنه يخطط لإجراء تخفيضات ضخمة في القوى البشرية، وخدمات الإسناد في وزارة الدفاع الأميركية. ومن المعروف أن العسكريين يجورون، في كل مرة يقومون فيها بإجراء تخفيضات في النفقات، على مصالح العديد من المواطنين، ورجال الكونجرس، وأعضاء مجلس الشيوخ... الذين يعتمدون على أموال الدفاع في إدامة وظائفهم، وصناعاتهم المحلية. والمشكلة التي يفهمها "جيتس" حق الفهم، هي أن ميزانية الدفاع متضخمة بأكثر مما ينبغي، وتحتاج إلى تخفيضات كبيرة، خصوصاً في عصر السياسة المتقشفة وعدم اليقين الاقتصادي الحالي، وفي الوقت الذي تتوزع فيه القوات الأميركية على مساحة واسعة للغاية عبر مختلف أنحاء العالم، وتنخرط في عمليات قتالية مستمرة في أفغانستان، والعراق، وبشكل غير مباشر في باكستان. وجوهر المشكلة هو أن ميزانية الولايات المتحدة العسكرية ضخمة للغاية مقارنة بباقي دول العالم. فحسب "معهد استكهولم الدولي لأبحاث السلام"( SIRRI) الذي ينشر قاعدة معلومات عن النفقات العسكرية السنوية في البلدان المختلفة، بلغت الميزانية الدفاعية الأميركية في عام 2009 نحول 663 مليار دولار أو ما يعادل 4.3 في المئة من الناتج القومي الإجمالي لعام 2008. وكانت الدولة الثانية بعد الولايات المتحدة هي الصين التي بلغت ميزانيتها الدفاعية 99 مليار دولار أو ما يعادل 2 في المئة من الناتج القومي الإجمالي. وحلت بريطانيا وفرنسا في المركزين الثالث والرابع على التوالي بميزانية قدرها 69 مليار دولار، أي ما يوازي 2.5 في المئة من الناتج القومي الإجمالي لبريطانيا، و67 مليار دولار تمثل 2.3 في المئة من الناتج القومي الإجمالي لفرنسا. أما روسيا التي كانت القوة العظمى المنافسة للولايات المتحدة في العهد السوفييتي، فقد حلت في المركز السادس حيث بلغت ميزانيتها الدفاعية 61 مليار دولار أو ما يوازي 3.5 من ناتجها القومي الإجمالي. وعند مقارنتها بمثيلتها لدى باقي دول العالم، نجد أن الميزانية الدفاعية الأميركية تعادل 43 في المئة من إجمالي الإنفاق العسكري لتلك الدول مجتمعة. فضلا عن ذلك، نجد أن"إدارة الميزانية الدفاعية" لا تغطى في العادة عدداً كبيراً من التكاليف غير المباشرة، المرتبطة بصيانة مؤسسة الدفاع الأميركية. فعلى سبيل المثال نجد أن التكاليف الباهظة لإدارة شؤون المحاربين القدماء، خصوصاً بعد ارتفاع أعداد الجنود الأميركيين الجرحى في ميادين القتال، الذين يتطلبون عناية طوال العمر، يتم تسجيلها في ميزانية منفصلة. وعلى نفس المنوال، نجد أن المصروفات الدفاعية المتعلقة بوزارة الطاقة، وأقمار الرصد المتطورة التابعة لوكالة "ناسا" الفضائية، لا يتم إدماجها في ميزانية وزارة الدفاع. ومن المعروف أن الجهود الرامية لتخفيض الميزانية كانت من ضمن المعالم الثابتة في المشهد السياسي الأميركي لسنوات عديدة. بيد أن الأزمة المالية في عام 2008 جعلت الموضوع أكثر أهمية اليوم مقارنة بأي وقت سابق، ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، على وجه التحديد، عندما تم إجراء تخفيضات هائلة في الإنفاق الدفاعي عقب الانتصار الذي حققته القوات الأميركية في المحيط الهادي مباشرة. وبعد انتهاء الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفييتي، كانت هناك آمال بإمكانية تحقيق وفورات في الميزانية الدفاعية، غير أن ذلك لم يتحقق على أرض الواقع ولم يتم إجراء تخفيضات ضخمة في التسعينيات من القرن الماضي، وهو ما كان يرجع جزئياً لأن الاقتصاد الأميركي كان في حالة ازدهار من ناحية وأن العجوزات في الميزانية كان يجري تعويضها من قبل الوفورات التي يحققها هذا الاقتصاد المزدهر من ناحية أخرى. وبعد ذلك جاء الحادي عشر من سبتمبر لتشهد الولايات المتحدة ارتفاعاً كبيراً في نفقاتها الدفاعية وخصوصاً بعد تورطها في حربين في العراق وأفغانستان، واضطرارها لإنفاق أموال ضخمة لمواجهة نفقات الحرب العالمية على الإرهاب، ومن بينها، على سبيل المثال، إنشاء وزارة الأمن الداخلي ذات التكلفة الباهظة للغاية. وفي الوقت الراهن يأتي الضغط لزيادة الإنفاق الدفاعي من داخل الإدارة حيث يقود الرئيس أوباما وروبرت جيتس الجهود الرامية لذلك. لكن هذا الضغط يأتي أيضاً من داخل الكونجرس، حيث اتحد عضوان مختلفان تماماً، هما "بارني فرنك" من ولاية ماساشوسيتس، وهو ليبرالي متطرف، و"رون بول" من ولاية تكساس، وهو محافظ متطرف، اتحدا معاً في المطالبة بتخفيض الميزانية الدفاعية الأميركية بمقدار تريليون دولار على مدى عشر سنوات. وهذا الائتلاف بين عضوي الكونجرس المذكورين يعكس القلق المتزايد لدى كل من اليمين المتطرف واليسار المتطرف بشأن التمدد الزائد للولايات المتحدة على الساحة العالمية، وبشأن أن هذا التمدد يعوقها عن الاهتمام بالاحتياجات الداخلية الأكثر إلحاحاً، وأن الأمة الأميركية غير قادرة على الاستمرار في هذا الإنفاق المبالغ فيه على الشؤون الدفاعية، بما يفوق باقي الدول الأخرى مجتمعة، وأن على باقي دول العالم وخصوصاً الكبرى منها، أن تضطلع بنصيبها من المسؤولية العالمية، بمعنى أن تنفق أكثر حتى تتمكن الولايات المتحدة من أن تنفق أقل. وهذا الشعور يجد معارضة من قبل المحافظين الجدد والليبراليين الجدد، الذين لا يزالون يؤمنون بالاستثنائية الأميركية، وبحاجة الولايات المتحدة للاستمرار كقوة عظمى وحيدة من ناحية القدرة العسكرية على أقل تقدير. ومن ناحية أخرى، نجد أن هذه الرغبات تقابل بانتقادات مضادة تتساءل: من أين يمكن الحصول على الأموال اللازمة لإرضاء هذه الطموحات المفرطة خصوصاً في الوقت الراهن حيث تعاني البلاد من أزمة مالية خانقة. ويرى هؤلاء النقاد، أن الدول المدينة لا تستطيع أن تستمر في وضعها كقوة عظمى لمدة طويلة. ومن المتوقع أن يزداد هذا السجال حدة واشتداداً خلال الشهور القليلة القادمة. ومن ضمن الوسائل الفعالة المقترحة لسد الفجوة بين الإمكانيات الحقيقية والاحتياجات الفعلية، تلك الوسيلة الخاصة بإنقاص التكاليف الدفاعية الإجمالية من خلال بيع المزيد من الأسلحة للأصدقاء والحلفاء. وهذا الموضوع سوف يكون محلا للدراسة والتحليل في مقالة أخرى قادمة.