في عام 1986 أنشأ الأسقفان الإنجيليان دونالد نورثوب وريتشارد رايت كنيسة جديدة منشقة عن كنيسة كانت قائمة منذ أوائل الثمانينيات في بلدة والدو في فلوريدا بالولايات المتحدة. وكانت لها كنيسة شقيقة في مدينة كولونيا في ألمانيا أسّسها أسقف آخر هو تيري جونز وهو أميركي انتقل من ميسوري إلى فلوريدا، ومنها هاجر الى ألمانيا مبشّراً. بدأ جونز حياته الكنسية أسقفاً في كنيسة محلية في ميسوري حيث اتُهم باختلاس أموال الكنيسة، وكان من المنشقين عنه ابنته إيما. وأمام انكشاف الفضيحة، انتقل من ميسوري إلى فلوريدا مع زوجته سيلفيا ليعمل أسقفاً مساعداً ثم ليؤسس كنيسته الجديدة. أطلق على كنيسته الإنجيلية الجديدة اسم "دوف". ومعناها اليمامة. وهي واحدة من آلاف الحركات الإنجيلية في الولايات المتحدة، إلا أنها أحدثها وأصغرها وأقلها شهرة وتاثيراً. غير أن هذه الحركة تحاول أن تدخل عالم الشهرة من بوابة العداء للإسلام. فقد قررت استغلال ذكرى الحادث الإجرامي الذي ارتكبه تنظيم "القاعدة" في نيويورك في 11 سبتمبر 2001 لتطلق حملة التعريف عن نفسها في الولايات المتحدة وفي العالم. إذ دعت الكنيسة الى تحويل الذكرى الى "يوم إحراق القرآن". وفي مطلع شهر أغسطس 2010 الحالي، صدر لتيري جونز كتاب هو أول إنتاجه أطلق عليه اسم "الإسلام هو الشيطان" وكان قد استخدم هذه العبارة الشيطانية على شكل لوحة إعلانية كبيرة علّقها أمام مدخل الكنيسة. كما فرض على طلاب المدرسة الملحقة بالكنيسة استخدام قمصان مكتوب على صدرها: "المسيح هو المخلص"، ومكتوب على ظهرها: "الإسلام هو الشيطان". وفي الشهر الماضي -يوليو- أعلن باسم كنيسة "دوف" تنظيم يوم لحرق القرآن ليكون بمثابة إحياء لذكرى ضحايا مجزرة 11 سبتمبر. ولتبرير تلك الدعوة المتعصبة الرديئة نشر لائحة بعشرة أسباب (الوصايا العشر) وعلى أساس هذه الأفكار الشيطانية العشر، دعا جونز المسيحيين إلى ما سماه "تهديم مملكة الظلام" واصفاً الإسلام بأقذع الأوصاف! ومن خلال هذه الدعوة الركيكة أدخل كنيسته الظلامية المغمورة والتي تكاد لا تعرف خارج بلدة والدو الصغيرة، إلى العالمية، نظراً للضجة التي أثارها داخل الولايات المتحدة وخارجها. وبالطبع كان لابد من إلقاء الضوء على هذه "الأدبيات الشيطانية" لمعرفة المدى الذي بلغته ظاهرة "الإسلاموفوبيا"، بمعنى كراهية الإسلام عن جهل به. فالنقاط العشر التي أوردها الأسقف جونز لتبرير دعوته إلى حرق القرآن الكريم تعكس أمرين أساسيين: الجهل بالإسلام عقيدةً وقيماً وتعاليم، والعداء له القائم على أساس هذا الجهل. طبعاً ليست كنيسة "دوف" (اليمامة) المجهولة من الأكثرية الساحقة من مسيحيي العالم والولايات المتحدة ذاتها، هي وحدها التي تدعو إلى هذا الموقف العدائي من الإسلام. فهناك حركة كنسية إنجيلية أميركية أكثر مغالاة في العداء للإسلام هي حركة الصهيونية المسيحانية التي تعتبر الإسلام عامل تعطيل للعودة الثانية للمسيح المنتظر بسبب معارضته تجميع اليهود في فلسطين وعدم تمكين الإسرائيليين من تهديم المسجد الأقصى لبناء الهيكل الذي يفترضون بالمسيح أن يعود إليه. وهذه الحركة الواسعة الانتشار والقوية النفوذ في الولايات المتحدة لعبت دوراً مؤثراً في صناعة القرارات السياسية المتعلقة بقضايا الشرق الأوسط على خلفية هذا الاعتقاد التوراتي. وقساوستها هم أول من تجرأ على الإسلام بالأوصاف الشيطانية. إلا أن ذلك لا يعني أن كل الكنائس الإنجيلية الأميركية تشاركها هذا الاعتقاد العدواني. فالكنائس الإنجيلية الرئيسة تعارض هذا الاعتقاد من منطلقات دينية مسيحية في الدرجة الأولى، حتى أن الكنيسة المشيخية مثلاً، دعت مؤخراً إدارة أوباما إلى وقف تقديم المساعدات إلى إسرائيل إلى أن تتوقف عن بناء المستوطنات اليهودية في الأراضي المحتلة. ثم إن الكنيستين الكاثوليكية والأرثوذكسية الأميركيتين تذهبان في نظريتيهما إلى ما تقول به الكنيسة الصهيونية المسيحانية إلى حد وصفه بأنه خروج عن التعاليم الدينية ومحاولة لتقويل الإنجيل ما لم يقله. وقد أطلقت هذه الكنائس الأميركية حركة للتنديد بدعوة كنيسة "دوف"، متهمة إياها بأنها حركة عنصرية لا علاقة للمسيحية بها من قريب أو بعيد. وتتداعى في الوقت الحاضر كنائس إنجيلية داخل الولايات المتحدة وخارجها -مصر ولبنان- لتحرك مضاد. حتى أن مجلس الكنائس العالمي في جنيف الذي يضم حوالي 349 كنيسة إنجيلية وأرثوذكسية بدأ اتصالات مع الكنائس الأعضاء تمهيداً لإصدار بيان شجب ورفض واستنكار. ومن المعروف أن المجلس يعد لمؤتمر إسلامي- مسيحي عالمي مشترك سيعقد في جنيف في مطلع شهر نوفمبر المقبل. أما داخل الولايات المتحدة بالذات فإن رد الفعل انعكس إيجاباً على المواقف المؤيدة لبناء مسجد في نيويورك بالقرب من الموقع الذي ارتكبت فيه جريمة 11-9-2001 وكان أوباما وقبله محافظ نيويورك نفسه، قد أبديا تجاوباً مع بناء المسجد على رغم معارضة بعض الجماعات المتصهينة المعادية للإسلام. ويبقى السؤال الأساس: ما هو دور منظمة المؤتمر الإسلامي وكيف ستتحرك لمواجهة هذه الظاهرة المتنامية في كراهية الإسلام في العديد من المجتمعات الغربية؟ لقد سبق للأمين العام للمنظمة البروفسور إحسان أوغلو أن بادر إلى تنظيم لقاء علمي عُقد قبل سنوات في إسطنبول لوضع تصور للتصدي لهذه الظاهرة الهدامة. كما أن القمة الإسلامية التي عقدت في ماليزيا أوصت بوضع استراتيجية إسلامية موحدة لمواجهتها فكرياً وثقافياً وحوارياً أيضاً. إلا أن النتائج العملية لا تزال دون مستوى تضخم الهجمة على الإسلام. ويقتضي هذا الأمر إعادة النظر في التصورات والبرامج التي نفذت أو التي يحتفظ بها في الأدراج.. وإطلاق حملة علمية منظمة بالتعاون مع الكنائس والمؤسسات الكنسية والعالمية في الولايات المتحدة وفي العالم. ليس المطلوب رداً بإصدار فتوى مماثلة لتلك الفتوى التي قضت بإهدار دم الكاتب الهندي سلمان رشدي على كتابه "آيات شيطانية". والتي جعلت منه نجماً إعلامياً ومن كتابه البائس طريقاً للشهرة. وليس المطلوب رد فعل على النحو الذي جرى إثر نشر الصور الكاريكاتورية الدانمركية المسيئة للنبي محمد عليه الصلاة والسلام، والتي فتحت صفحات بعض الصحف الأوروبية والعالمية أمام هذه الصور الرديئة البذيئة تعميماً لما تحمله من كراهية. بل المطلوب ينبغي أن يكون ردّاً علميّاً يخاطب العقل والمنطق ويعيد الكرة الشيطانية إلى مرمى أصحابها.