فقدت العلمانية- ليست حسب نعت "الإخوان المسلمين" وأحفادهم - خلال فترات متقاربة ثلاثة من الأعلام: عابد الجابري، نصر حامد أبو زيد، وأحمد البغدادي. كان لكلٍّ منهم أسلوبه وتأثيره. لكن ما يجمعهم هو مقاومة استلاب العقل. على أن الانتصار للعقل تصدى له علماء دين كبار أيضاً، من الأولين والمتأخرين، اجتهدوا من أجل تقدم الحياة، وإلغاء المواءمة ما بين الدِّين والجمود. ما لفت نظري في ردة فعل المتشددين على انقضاء آجال الثلاثة هو اعتبار موتهم عقوبة وسموهم بالهالكين، غير أن موت أقطابهم يعني كرامةً ففي موتهم آية من الآيات، قالوها للانتحاريين الذين يقتلون المئات، بعد إنشاد قصائد الهلاك. دعا الحال الأستاذ أحمد البغدادي الكتابة بما حُوكم عليه، ففي 5 أكتوبر 1999 مثلَ أمام المحكمة بتهمة الإساءة إلى الدِّين، ورمي بالسِّجن، بدعوى المس بالرَّسول الكريم، لتفسير مفردة "فشل"، وقضى أسبوعين سجيناً، مع أن كلَّ كاتب تخونه المفردة، إلا أن المعنى يبقى واحداً، فماذا قالت كتب التاريخ، والحديث النَّبوي، عن معركة أُحد مثلاً! وبماذا تحدثت كتب السِّيرة، عن اضطرار النَّبي صلى الله عليه وسلم للجوء إلى الطَّائف، بعد اليأس من قريش! إنها مفردات اللُّغة، وردت بلا تقعر في آي القرآن ومتون الحديث. ألم يرد قوله تعالى: "كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْي مِنَ الْحَقِّ"(الأحزاب: 53)، أقول: لماذا الشدِّة، والتربص! لكن أمير الكويت آنذاك استمع للنداءات فأصدر عفواً أميرياً. شعر حينها الاُصوليون بالخذلان، لأنهم يريدون الأمور أن تجري حسب منطلقاتهم، بهضم الآخرين، فظلوا يتحينون الفرصة حتى نشر البغدادي: "أما لهذا التخلف من نهاية"، في "السياسة" الكويتية، رداً على زيادة دروس الدِّين على حساب بقية العلوم. فاُتخذ الردُّ مساساً بالدِّين، وحكم حينها (19 مارس 2005) بالسِّجن لسَّنة واحدة مع وقف التَّنفيذ، والتَّعهد "بعدم العودة إلى الإجرام". إنها طامة كبرى عندما يوصف مفكر مثل البغدادي مجرماً، بينما الانتحاري شهيداً! في حالة مشابهة تعرض الأستاذ الجامعي السعودي حمزة المزيني للموقف نفسه، فبسبب مقال حُكم عليه بالجلد، وأخبرني أنه كادت تنفذ به العقوبة، لولا أن الحريصين على كرامة الأستاذ الجامعي، سعوا لإصدار إرادة ملكية، فنجا المزيني من الهلاك، وهي حالة تكررت بالسُّودان، واليمن، وبلدان أُخر، لكن من دون منقذ. يحدث ذلك لمحاولة المتشددين إظهار أنفسهم حماةً للدِّين، مع أن الأمر يتعلق بالتديّن، وهو من صنع الرِّجال، لا بالدِّين نفسه. فتاوى مستلة: "الشِّفا بتعريف حقوق المصطفى"، لليَحصُبي (ت 544 هـ)، أو "الصَّارم المسلول على شاتم الرَّسول" لابن تيمية (ت 728 هـ)، وما فيهما مِنْ عقوبات مروعة. مع أن الدِّين إيمان وقناعة. تقول الآية: "وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا"(الفرقان: 72)، وتقول أخرى: "وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ"(الأنعام: 108). فمَنْ له مصلحة أو جرأة على الإساءة للرَّسول صلى الله عليه وسلم، وهو محط تكريم وتبجيل الجميع، وإن حصل لا سمح الله فهو لغو، حسب الآية الأولى، وهو ردة فعل، حسب الآية الثانية، فاسمعوا لأئمة المنابر العشوائية، كيف يتقصدون النَّاس وينالون منهم، بسبب مخالفة آرائهم بما يتمنطقون به من البراء والولاء. إن فوضى المدارس الدِّينية، والدراسة الدِّينية، التي انتقدها أحمد البغدادي، في فترة ما بعد الجهاد بأفغانستان، غدت مخيفة ومقلقة حقاً، فالعديد منها يتخذ من "الشُّروط العُمرية"، ما يخص معاملة أهل الذِّمة، وهي واحد وعشرون شرطاً، مادة لها، فماذا يُرجى من تلك الدُّروس والعالم يتقدم نحو الحوار بين الثَّقافات والأديان! ولا يعني أن البغدادي عندما أعلن أنه يريد تعليم ولده الموسيقى والكيمياء والفيزياء أنه خرج من الدِّين، وكيف لهذه الأمم أن تتطور إذا لم تركز عنايتها على تلك العلوم. أتذكر أن مدرس الكيمياء، في المدرسة المتوسطة(1968)، كان يشدنا إلى الدُّروس العلمية، بكتابة الآية على السَّبورة أمامنا: "إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلاّ بِسُلْطَانٍ"(الرَّحمن: 33)، محذراً من التَّهاون بهذه العلوم، في وقت كان السعي جاداً للصُّعود إلى القمر، بينما رجال دِّين كانوا يستهزئون من هذه الخطوة علانيةً. أليس مدرسنا والبغدادي يريدان لهذه الأمم الخاملة على ما يبدو، والتي مازالت غير قادرة على صناعة إبرة الخياط، الالتحاق بركب الحضارة العلمية! يغلب على الظن أن المعتزلة عندما اعتبروا العقل هو الأول، قبل النُّصوص، وتبنوا مقالة "الفكر قبل ورود السمع" كانوا يحرضون على استخدام العقل، ولا انتقاص من رأي باحثين آخرين لاعتبارهم ظهور المعتزلة دفاعاً عن الإسلام ضد الثَّقافات الأُخر، التي اختلط بها العرب حاملو لواء الإسلام، أقول: إنما حتم وجودهم (المعتزلة) هو تراجع العقل، بما وضع من الأحاديث، وما سرى من فتاوى، وخُلق من روايات، تُشل العقل عن الحركة، ولولا هذا العقل، الذي انتصر له المعتزلة، وهو السُّلطان، مثلما ورد في الآية، وشرح لنا مدرس الكيمياء، الذي به سيتدبر المسلمون مركبة فضائية، وينفذون إلى عالم الفضاء الرحيب، إذا استخدم بموضوعية. كذلك فإن الإكثار من دروس الدِّين على حساب بقية العلوم، والبقاء على آيات المودة والسَّلام والمحاججة وقبول الرَّأي منسوخة بآية "السَّيف"؛ مثلما سماها هبة الله البغدادي (ت 410 هـ) في "الناسخ والمنسوخ"، هي دافع أحمد البغدادي إلى التَّنبيه لتلك الظاهرة، فما علاقة ذلك بالإساءة للدِّين! على العكس أراه انتصاراً للدِّين، لكن غير الذي يتخذه الإسلام السِّياسي سيفاً على الرؤوس. فهل رأيتم في موقع أو جريدة من جرائد التَّشدد آية "لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ"، أو الآيات التي شرعت الاختلاف: "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ" (هود: 118)، وإن ذكروا تلك الآيات فلا يتركونها بلا تفسير وتأويل لنصرة التَّشدد، وخنق الحياة! وهذا ما نطق ضده نصر حامد أبو زيد والبغدادي. كان البغدادي جريئاً في ما ذهب إليه، يعتز برأيه، وربما مشاركته للدَّاعين إلى محكمة دولية للمفتين بالقتل، من مختلف الأديان، تحمي مَنْ لا يملك سوى لسانه وقلمه، وكان هو قاب قوسين أو أدنى بفتوى أحدهم، إنه سبب آخر يضاف إلى الهجمة الشَّرسة ضده، حتى قضى شطراً من حياته حذراً، من شاهر خنجر مارق.