الصيام عن التلفزيون في رمضان... دعوة عجيبة أليس كذلك؟ إنه من دون تردد هازم الجماعات وسارق الأوقات ومفرق العائلات وخاسف العقول، خلاف ما يتصوره واعتاده الجميع أنه مكان اجتماع العائلة وتزجية الوقت والتسلية. أذكر تماما رحلة تعرفي على هذا الجهاز، ظاهره الرحمة وباطنه من قبله العذاب. كان ذلك في ألمانيا وكانت التلفزيونات سوداء بيضاء وملونة، والفرق في السعر كبير، فاشتريت واحدا مستعملا غير ملون من رجل شيوعي ألماني متمرد على المجتمع الألماني الغربي، ولم ينجب لأن الحياة حسب رأيه لاتستحق المتابعة. وبالمناسبة التسمية جاءت من الإنجليزية وتعني الرؤية من بعيد، حيث أن الكلمة مكونة من كلمتين (Tele - Vision) ولذا فضل الألمان استخدام لغتهم فسموه فيرن زيهن (Fern - Sehen) وهي تعني أيضا أن ترى من بعد؟ أما نحن بلغتنا العربية؛ فنقلنا الكلمة كما هي، وهكذا نتناقل كلمات ريسيفر وتلفزيون وراديو وتلفون وفيديو وأوديو. اشتريت من مدينة أولدن بورج الشمالية تلفزيوناً أسود أرى فيه برامج الأطفال مع بناتي الحبيبات وكان يومها النحلة مايا برنامجا محببا، فكنا نتمتع فيه سوية، ثم أدمنت على التلفزيون كما يدمن الجميع بهيروئين عيني. ويومها لم يكن معروفا الفيديو حتى جاءت القفزة التاريخية وكان ذلك معاصرا للثورة الإيرانية عام 1979. إن التلفزيون هو النظام المطور عن الراديو بإضافة الصورة على الصوت، وهكذا أصبحت الانفوميديا أي دمج الاعلام بالمعلومات ديناصوراً مخيفاً بحق، وحالياً نرى سخف المسلسلات، ولذا ينصح بقراءة "المتلاعبون بالعقول" لتايلور. ويومها حين كنت في ألمانيا أذكر جيدا نصيحة المستشار الألماني شميدت وزوجته هانيلورا أن يصوم الناس عن التلفزيون يوما واحدا في الأسبوع حتى تتفرغ العائلات للحديث فيما بين بعضها بعضا، ويتعلم الأطفال شيئاً جديدا مفيدا من دون أن يصلبوا على حافة كراسيهم وهم يحدقون بعيون بلهاء برنامجاً كاذباً غير حقيقي مدمرا للقيم الإنسانية حيث يغفل الآباء والأمهات عن السموم الهارية المتسربة في قنوات ومفاصل هذا الجهاز المنافق. لقد لاحظ المستشار الألماني الذكي المعمر حتى اليوم أن القنوات إذا اشتغلت ـ وهي اليوم أكثر من ألف يحتاج تقليبها إلى 45 دقيقة ـ توقف العقل عن العمل، واشرأبت الأعناق، وإذا العيون طمست تتلقى بدون نقد ومراجعة، ويتعرف الطفل على حياة مزورة من قتل وضرب وكذب وافتراء من نوع أفلام العراب والمنهي والقاتل والمصفي والذباح بسواطير من مناشير؟ وهي كلها تزوير لحقيقة ما يجري حول هوليوود. وعندي فلسفة إذا زرت عائلة ففتحوا قناتهم قلت لهم إنني جئت لزيارتكم وليس التلفزيون. إنني أذكر المؤرخ البريطاني جون آرنولد توينبي جيدا في مقابلة معه عن التلفزيون، أنه مصيبة ثلاثية من تزوير الحقائق، والبعد عن الواقعية من عنف وإباحية وسفك دم، وتضييع الوقت الثمين الذي هو رأسمال بناء الفكر، ومرحلة انحطاط عقلي وارتداد إلى عصر الكهوف باعتماد الصورة دليلًا، ونبذ الكتاب المرشد إلى سواء السبيل ثقافة وبناء معرفياً، فليس مثل الكتاب الجيد نورا على نور. وأنا شخصياً أصغيت لقول المستشار الألماني المتقاعد والمؤرخ توينبي فلا أفتح التلفزيون إلا نادراً لتسلية عابرة من أفلام هادفة وبرامج وثائقية أو استعراض الطبيعة وعجائب الحيوان أكثر من كذب الإنسان، أما الأخبار فتأتيني بالنت. أما بقية الوقت فهو للبناء المعرفي بالمطالعة النهمة لحقول معرفية موسوعية لا تكف عن الاتساع، فالحياة قصيرة، والعلم محيط، والطاقة قاصرة، والعين تعشى، والذاكرة تذوى، ونرجع إلى الله فينبئنا بما كنا نعمل، وسع علمه كل شيء، وهو الولي الحميد.