ذكرت التقارير في مطلع هذا الأسبوع أن رئيس الوزراء الإسرائيلي قد تقدم بعرض جديد لبدء المفاوضات المباشرة مع الفلسطينيين يقوم على التوصل إلى إعلان اتفاق شبيه باتفاق أوسلو1993، وأشارت هذه التقارير إلى أن المشروع يتضمن انسحاباً إسرائيلياً من مساحة واسعة تصل حتى 90 في المئة من الضفة الغربية من دون القدس الشرقية، وإجلاء أكثر من خمسين ألف مستوطن من قلب الضفة إلى الكتل الاستيطانية، علماً بأن العرض لا يلزم الفلسطينيين بالتوقيع على إنهاء الصراع، أو وقف المطالبة بالجزء المتبقي من الضفة الغربية وكذلك القدس. وقالت هذه التقارير إن العرض يتكيف أيضاً مع موقف "حماس" التي ترحب بأي انسحاب جديد ما لم يلزم الفلسطينيين بالتنازل عن الأجزاء المتبقية من الأرض المحتلة في1967. عيوب العرض ظاهرة، لكنه إن صدقت النوايا الإسرائيلية –وهي عادة لا تصدق- يمثل خطوة إلى الأمام مقارنة بالوضع الراهن، وهذا يفسر ما ذكرته التقارير أيضاً من أن هذه الأفكار قد أحدثت بلبلة في الصفوف الفلسطينية في الضفة الغربية. البعض قلق من تحول العرض الإسرائيلي حال تحقيقه إلى حل نهائي، ولذلك يرى أنه قد يكون من الأفضل أن يربط به التوصل إلى حل نهائي في مدى زمني معين، والبعض الآخر يرى أن العرض يستحق مخاطرة الدخول في مفاوضات مباشرة على أساسه، خصوصاً أن الفلسطينيين لا يملكون أوراقاً كثيرة بعد تراجع الرئيس الأميركي عن وعوده لهم وإحلال التهديدات محلها، وفشل المفاوضات الممتدة دون جدوى مع الحكومات الإسرائيلية، ومع تذكر أن الفلسطينيين ليسوا ملزمين به كحل نهائي للصراع كما سبقت الإشارة. ولكي نقيم عرض نتنياهو هذا لابد من الإشارة أولاً إلى أنه بغض النظر عن عيوبه يمثل وضعاً أفضل فلسطينياً مقارنة بدخولهم المفاوضات دون أي "عرض افتتاحي" إسرائيلي على الإطلاق، وأحسب أن السبب الأساس في هذا الصدد، يعود إلى تمسك عباس بموقفه المتمثل في رفض المفاوضات المباشرة ما لم ترتبط بمرجعية واضحة، لأن البعض تصور أنه سعى إلى القرار الأخير للجنة متابعة المبادرة العربية للسلام كمجرد غطاء عربي يهرول بعده إلى المفاوضات متذرعاً بأن هذه رغبة عربية أميركية لا سبيل للفلسطينيين إلى مقاومتها، لكنني أعتقد أن الرئيس عباس –النصير الأول للمفاوضات- يعلم الآن الكثير عن خبايا الموقفين الإسرائيلي والأميركي، ولذلك فهو بالتأكيد لا يريد الانتحار السياسي، خاصة في ظل الصراع مع "حماس" التي تتصيد له أي خطأ لإثبات عقم مسلكه وتهافته. وفي هذا الإطار لابد وأن نتذكر أن عرض نتنياهو قد قدم على خلفية اقتراح عباس بأن يكون بيان اللجنة الرباعية الدولية الصادر في مارس الماضي أساسًا للمفاوضات، وهو الأمر الذي سبب دون شك حرجاً بالغاً لنتنياهو الذي سارع برفض هذا المطلب، ولمجرد التذكرة فإن بيان اللجنة تضمن الحديث عن إقامة دولة فلسطينية بعد مفاوضات تستمر أربعة وعشرين شهراً، على أن تنهي الاحتلال الإسرائيلي الذي بدأ عام1967، وعن تجميد إسرائيل تماماً البناء في المستوطنات، كما أكد البيان عدم اعتراف المجتمع الدولي بضم إسرائيل القدس الشرقية. واللجنة الرباعية هذه ليست من اختراعنا، وليست بالطبع منحازة لنا، ويفترض أنها تعبر عن ما يسمى بالشرعية الدولية، ويمكن نسبة فكرتها في التحليل الأخير إلى الولايات المتحدة، ولذلك فإن إسرائيل لا تستطيع بأن تكتفي برفض التفاوض على أساس بيان اللجنة وإلا ازداد انكشافها بين أصدقائها، ومن هنا يمكن فهم السياق الذي أتى فيه عرض نتنياهو، وهو بهذا المعنى يعتبر متخلفاً عن بيان "اللجنة الرباعية" في أربعة مواضع على الأقل: الأول هو إشارته إلى أن النتيجة النهائية للمفاوضات هي التوصل إلى دولة فلسطينية فيما يعرض نتنياهو أفكاراً لوضع انتقالي جديد، والثاني أن بيان اللجنة يشير إلى التجميد التام للاستيطان، بينما لا يتضمن العرض الإسرائيلي سوى إجلاء أكثر من خمسين ألف مستوطن من قلب الضفة إلى "الكتل الاستيطانية"، أي "تنظيم الاستيطان" وليس تقييده أو تقليصه ناهيك عن الخلاص منه، والثالث أن بيان اللجنة لا يعترف بضم إسرائيل القدس الشرقية فيما يسمح للفلسطينيين وفقاً لنتنياهو "بالاستمرار في المطالبة" بها، والرابع والأخير أن ثمة قيداً زمنياً قوامه سنتان في بيان "الرباعية" بينما لا يوجد أي إطار زمني في عرض نتنياهو، ولا ننسى أن بيان اللجنة وعرض نتنياهو لا يتضمن كلمة واحدة عن حق العودة أو تفكيك الاستيطان. ومن ناحية أخرى لابد أن نتذكر العقم الإسرائيلي الذي ساد جولات التفاوض السابقة بشأن القضية الفلسطينية، من المفاوضات المصرية- الإسرائيلية حول التوصل إلى حكم ذاتي للفلسطينيين في أعقاب توقيع معاهدة السلام المصرية- الإسرائيلية في مارس1979، ومروراً بمفاوضات تنفيذ اتفاق أوسلو1993، ومحاولات التفاوض على أساس خريطة الطريق الأميركية2003، ومؤتمر أنابوليس في خريف2007 الذي رحَّلَ المفاوضات لما بعد المؤتمر أصلاً، ناهيك عن نكوص إسرائيل الفوري عن الالتزام بنتائجه، وأهمها التوصل إلى حل مع نهاية2008. ليس لدينا إذن أي مصدر للثقة بأن إسرائيل في هذه المرة يمكن أن تقدم على سلوك مختلف نوعياً، فسلوكها وفقاً لهذه الخبرات إما عقبة في طريق التوصل إلى حلول أو في طريق تنفيذها إن تم التوصل إلى هذه الحلول. وإذا كانت هناك حقيقة حيرة فلسطينية حول الموقف من عرض كهذا فثمة ملاحظات في هذا الصدد يمكن الإدلاء بها أولها فكرة سبق أن أشرت إليها، وأصبحت الآن أكثر جدارة بالاهتمام، وهي مطالبة إسرائيل بالالتزام باتفاق أوسلو1993 الذي تعثر إلى الحد الذي أعادنا إلى المربع رقم واحد قبل توقيعه بغض النظر عن وجود سلطة فلسطينية نعلم جميعاً أنها لا تملك شيئاً في مواجهة إسرائيل التي تقتحم متى شاءت، وتأسر وتقتل متى شاءت، وتقصف متى شاءت. ووجه الجدارة في هذه الفكرة الآن أن نتنياهو نفسه يقترب من شيء أشبه "بمسخ أوسلو"، فلماذا لا نطالب بالعودة إلى الأصل الذي لا تخفى جوانب رداءته؟ ومع ذلك فإن من شأن رفض إسرائيل هذا المطلب أن يسبب لها حرجاً بالغاً خاصة وأن اتفاقية أوسلو ملزمة لها قانوناً. أما إذا أرادت السلطة دخول المفاوضات نتيجة الضغوط الأميركية والإسرائيلية والعربية بناءً على هذا العرض باعتباره خطوة إلى الأمام فلتفعل، علماً بأنها إن فعلت يجب أن تكون واعية تمام الوعي بأنها ستصادف في هذه المفاوضات كل ما صادفته قبلاً من تعنت ومراوغة إسرائيليين، وأنها لن تفاجأ بطبيعة الحال إذا انتهى هذا العرض إلى نتائج بائسة سوف تماطل إسرائيل في الالتزام بها وتنفيذها كالعادة، وأن الدافع الوحيد للإقدام على هذا القرار هو –كما قيل كثيراً من قبل- تفادي الضغوط الدولية التي سيسارع أصحابها إلى الإِشادة بمرونة نتنياهو وأفكاره الخلاقة، واستنكار رفض الفلسطينيين الدخول في المفاوضات التي لا تلزمهم بأي شيء فيما يتعلق بالحل النهائي. أما القول بأن هذه الجولة يمكن أن تصل إلى نتائج قابلة للتطوير، فهو قول مردود بالتأكيد على أن تطوير "المسخ" إلى "الكائن" الذي يريده الفلسطينيون يحتاج رؤية أخرى واستراتيجية أخرى وأفكاراً أخرى. وليس صحيحاً أن الانتفاضات الفلسطينية السابقة قد فشلت كلها، وإن كانت هذه بدورها قصة أخرى.